قال الرئيس جورج بوش لسفيره في بغداد زلماي خليلزاد: عندي أخبار سيئة لك وأخبار أكثر سوءاً. استفسر السفير:ما الأخبار السيئة يا سيدي الرئيس؟ أجاب جورج بوش: لن يسمح لنا تردّي الأوضاع بالبقاء في العراق أكثر من سنتين. سأل السفير: وما الأخبار الأكثر سوءاً سيدي الرئيس؟ أجاب بوش: نسيت أن أخبرك بذلك عندما عيّنتك سفيراً في بغداد قبل سنتين. هذه نكتة، وسياسات الرئيس الأميركي تضاهي النكات عليه. فالصفقة النووية، التي أعلنها الأسبوع الماضي مع الهند أعقبت ثمانية أعوام من فرض العقوبات على دلهي باعتبارها دولة نووية مارقة ترفض الانضمام إلى "اتفاقية حظر الانتشار النووي". ويُجمع الخبراء على أن الرئيس الأميركي، انتهك بالصفقة مع الهند، القواعد الدولية المتبعة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ويُحرّم بموجبها تجهيز التكنولوجيا النووية للبلدان غير المنضمة إلى "اتفاقية حظر الانتشار". وليس الرئيس بوش أول من انتهك هذه الاتفاقية. سبقه إلى ذلك جميع رؤساء الولايات المتحدة، الذين عقدوا تحالفات استراتيجية مع إسرائيل وباكستان، على الرغم من تطويرهما أسلحة نووية، ورفضهما الانضمام إلى الاتفاقية. لكن بوش يتميز عنهم بالادعاء بأنه يحاول "التفكير بشكل مختلف"، مشيراً بذلك إلى سعي إدارته لوضع قواعد عمل جديدة لـ"الوكالة الدولية للطاقة الذرية". وهذه علامة تنذر المجتمع الدولي بالخطر، الذي يعرف من كارثة العراق عواقب محاولة الرئيس الأميركي "التفكير بشكل مختلف".

ويكافئ بوش في واقع الحال الهند على سلوكها النووي المارق متيحاً لها مضاعفة مخزون رؤوسها النووية من 50 حالياً إلى ما بين 300 و400 خلال عشر سنوات. ولن يكون على الهند بموجب الاتفاقية، التي تمهد لها دخول "النادي الذري" سوى التعهدّ بوضع 14 مفاعلاً نووياً رهن نظام التفتيش الدولي، قبل عام 2014، وتجيز لها مقابل ذلك إنتاج ما لا حدّ له من الوقود النووي لتغذية مفاعلاتها الحربية الثمانية، وإنشاء المزيد منها.

وفي هذا تبدو الصفقة مع الهند أول خطوة عملية لما تسمى "الدبلوماسية التحويلية" transformational diplomacy، التي تُبشر بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس. تقرّ هذه الدبلوماسية بتحوّل مركز ثقل التوازن الدولي من أوروبا إلى آسيا، وبموجبها تبدو الهند حليفاً والصين عدواً، والعالم العربي وإلإسلامي فرسي رهان. وهذا أسوأ خطأ ترتكبه الولايات المتحدة بعد كارثة العراق، ليس فقط لأن 80 في المئة من احتياطيات النفط والغاز موجودة في العالم العربي والإسلامي، بل لأن الهند نفسها ثاني دولة في العالم بعد إندونيسيا من حيث عدد السكان المسلمين، ويقترب عدد مسلمي الصين من عددهم في منطقة الخليج العربي. وقد تحقق بذلك واشنطن كابوس "صراع الحضارات" الذي يراه صاموئيل هنتنغتون في قيام التحالف الإسلامي- البوذي.

والسؤال هو: هل تتورط الهند في لعب دور الشريك الاستراتيجي في ما يُسمى بـ"الحملة الصليبية من أجل الديمقراطية"؟ تردّدت كلمة "الديمقراطية" 16 مرة في خطاب جورج بوش أمام نخبة المجتمع الهندي في دلهي، التي ضمت 300 شخص، يُفترض أنهم يمثلون ملياراً و300 مليون هندي. وأورد الرئيس الأميركي في خطابه قائمة بأسماء الدول "المارقة" في تقديره، ومعظمها تعتبرها دلهي صديقة، ولها فيها مصالح مهمة تتعلق بالطاقة، التي يتوقف عليها تطور الهند الاقتصادي، ومستوى معيشة سكانها. ولعجز الهند عن مجابهة المنافسة "المسلّحة" حول الطاقة مع الولايات المتحدة استثمرت ملايين الدولارات في مشاريع تتعلق باستخراج النفط والغاز في دول تعتبرها واشنطن عدوة، كسوريا، والسودان، وماينمار (بورما سابقاً)، وكوبا، وفنزويلا، وإيران نفسها. هذا سبب حرص رئيس الوزراء الهندي مانموهان سنغ على إصدار بيان خاص في البرلمان أوضح فيه أن بلاده لم تمالئ واشنطن بالتصويت ضد إيران داخل "الوكالة الدولية للطاقة"، بل فعلت ذلك لعدم تعاون إيران مع الوكالة.

و"نكتة" الصفقة النووية هو توقيتها مع المفاوضات الجارية في مقر "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" في فيينا حول ملف إيران النووي. فهل يسهّل تحويل الملف إلى مجلس الأمن فرض عقوبات على طهران، التي لم يثبت حتى الآن أنها طورت أسلحة نووية، بعد أقل من أسبوع من مكافأة واشنطن دلهي على مروقها النووي؟ وكم يضاعف ذلك نقمة إسلام آباد على حرمانها من معاملة مماثلة بحجة تورط العالم الباكستاني عبدالقدير خان بتسريب تقنيات نووية إلى ليبيا وإيران؟ ظهر ذلك واضحاً في رحلة الرئيس الباكستاني برويز مشرف الاستباقية إلى بكين قبل أيام من وصول جورج بوش، وإعلانه بأنها جزء من جهوده "لإبقاء خيارات باكستان الاستراتيجية مفتوحة". وفي التعقيب على هذا تأسى صحيفة "نيويورك تايمز" لحال الرئيس بوش، الذي يواجه في علاقته بالهند وباكستان الموقف المستحيل "لمن يحاول إرضاء حبيبتين في آن واحد".

وفي الحقيقة ليست الصفقة النووية مع دلهي سوى قصة بلهاء يرويها فيلم هندي فيه الكثير من الضرب والرقص والغناء والدموع. بطل القصة الحقيقي هو النفط. وفي هذا أقرّ الرئيس الأميركي في تصريحاته بنصف الحقيقة لتغطية نصفها الآخر، حين ذكر أن مساعدة الهند على تطوير الطاقة النووية لأغراض سلمية تخفف ضغط المنافسة في سوق الطاقة العالمية. وأنكر من جانب آخر علاقة ذلك بمشروع الشبكة الآسيوية لأنابيب النفط والغاز. فالصفقة النووية لم تتم، إلاّ بعد إقالة وزير النفط الهندي، وتعطيل مشروع الشبكة العملاقة، التي يُفترض أن تمتد من إيران إلى باكستان والهند، وعبرهما إلى أوكرانيا شمالاً واليابان شرقاً.

ويظل مصير الصفقة معلقاً بموافقة الكونغرس الأميركي. وهذه ليست مسألة سهلة. فالاتفاقية لن توضع موضع التنفيذ ما لم يوافق الكونغرس على إجراء تعديلات جوهرية في تشريعاته حول "عدم الانتشار". ومشكلة الكونغرس بهذا الصدد لا علاقة لها بأخلاقية التعامل مع دولة مارقة، بل براغماتية التعامل مع أكبر منافس للعمالة في الولايات المتحدة. فإلى الهند تذهب معظم ما تُسمى أعمال "اللزمة الخارجية" outsourcing، وهي في الواقع السوق السوداء للعمالة الأجنبية، التي تمتد من قيام عمال الاتصالات الهاتفية داخل الهند بإدارة شبكات الهاتف داخل الولايات المتحدة إلى تطوير المبرمجين الهنود برامج شركات "هيبوليت باكرد" و"مايكروسوفت"، وغيرها من صناعات الكومبيوتر الكبرى. وشرعت العمالة الأجنبية بالزحف إلى مجالات البحث العلمي. كشفت عن ذلك نتائج دراسة أعلنتها في الشهر الماضي "أكاديميات العلوم الأميركية"، وهي أعلى جهة بحثية في الولايات المتحدة. وظهر من الاستقصاء الذي أجرته الأكاديميات أن 38 في المئة من أكبر 200 شركة عالمية قررت تحويل قسم كبير من أبحاثها إلى علماء الهند والصين، الذين يضاهون بالخبرة، حسب تقدير هذه الشركات منافسيهم الغربيين.