نصر شمالي

تعدّ القوات المسلحة الأميركية عموماً حوالي المليون ونصف المليون جندي، منها حوالي أربعمائة ألف جندي يخدمون في الخارج، وينخرط حوالي نصفهم في الحرب ضدّ العراق (150 ألفاً) وفي الحرب ضدّ أفغانستان (50 ألفاً) ويتوزع النصف الآخر في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وجدير بالذكر أن القوات المقاتلة تقتصر في معظمها على الوحدات المنتشرة في الخارج، حيث الرقم الإجمالي للقوات المسلحة الأميركية (1.5 مليوناً) يتكون في معظمه من تشكيلات خدماتية، مكتبية ولوجستية وما إلى ذلك، الأمر الذي يعني أن نصف القوات المقاتلة غارق في مستنقعات حرب غامضة، غير مضمونة النتائج بالنسبة للأميركيين، في العراق وأفغانستان. وإذا كانت الأمور الأميركية تبدو على ما يرام في مناطق العالم الأخرى، حيث ينتشر النصف الآخر من القوات الأميركية المقاتلة، فإن أحداً لا يستطيع أن يتأكد من أنها سوف تبقى كذلك في حال تعرضت القوات الأميركية في العراق وأفغانستان لنكسات استراتيجية كبرى، وهو الاحتمال القائم بالفعل!

إعلان في غير وقته!

غير أن ما يدعو للاستغراب (للوهلة الأولى) هو توجه الإدارة الأميركية نحو خطة لنشر قواتها المقاتلة حول العالم بصورة تضمن إعادة حوالي سبعين ألفاً منها إلى الوطن! فهذا التوجه الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي منذ آب/ أغسطس 2004، يعطي انطباعاً، للشعب الأميركي خاصة، أن الإدارة الأميركية واثقة من انتصارها، سواء في العراق وأفغانستان أم ضدّ ما تسميه "الإرهاب" في العالم عموماً! لقد أعلن الرئيس بوش حينئذ عزم إدارته على تخفيض عدد قواتها المنتشرة في كوريا الجنوبية وفي أوروبا، في محاولة لإظهار سيطرته على مسارات الحرب وثقته بنتائجها، غير أن المراقبين فهموا غير ذلك، لأنهم يعرفون حقيقة مسار الحرب في العراق وأفغانستان، ولأن ما يمكن أن ينطلي على الشعب الأميركي لا يمكن أن ينطلي عليهم، فمثل هذا التوجه لتقليص حجم القوات في الخارج لابد وأنه يهدف إلى تخفيف التكاليف المادية الباهظة لهذه القوات من جهة، وإلى توفير بدائل للقوات المحاربة في العراق خاصة من جهة أخرى، وهو الاستبدال الذي لابد منه ضمن برنامج واضح يخفف حدة قلق وغضب أهالي الجنود في الوطن!

يقول بعض المحللين السياسيين الأميركيين أن وزارة الدفاع الأميركية شرعت في التخطيط لعملية إعادة الانتشار العالمي، أي تقليص حجم القوات في الخارج، قبل عام 2000 ووصول إدارة بوش إلى الحكم، وأن الهدف من هذا التخطيط كان جعل الموقف العسكري الأميركي أكثر عقلانية وتلاؤماً مع الظروف الدولية المستجدة، غير أن الرئيس بوش أعلن هذا التوجه يعد احتلال العراق ومضاعفاته، أي في ظروف دولية مستجدّة غير ملائمة، فأخاف حلفاءه الذين سيسحب قواته من بلادهم، وأخاف الأميركيين الذين سرعان ما أدركوا أن ذلك يعني توفير أعداد أكبر من الجنود تلبية لاحتياجات الحرب التي تزداد اتساعاً في العراق!

طرائق الانسحاب من العراق؟

لقد جاء إعلان الإدارة الأميركية عن خطتها لتقليص انتشار قواتها حول العالم في وقت أصبح فيه موضوع انسحابها من العراق محسوماً، أي أن استمرار وجود القوات الأميركية في العراق لم يعد مجدياً، بغض النظر عن كونها تستطيع البقاء لسنوات وسنوات، إنما من دون جدوى! لم يعد السؤال الملح هو: هل تنسحب أم لا؟ بل متى تنسحب وفي ظل أي ظروف! وقد وجد الأميركيون أنفسهم فقط أمام ثلاثة طرائق محتملة للانسحاب: الأول، قرار منفرد تتخذه الحكومة الأميركية، والثاني، الانسحاب استجابة لطلب من السلطات العراقية (متفق عليه) والثالث، الانسحاب الإجباري تحت ضغط المقاومة مهما طال الزمن!

ومع أن الطريقة الأولى هي ما يدعو إليه العقلاء في العالم مدعومين بتأييد واسع من الرأي العام، ومع أنها يمكن أن تكون الأفضل لصالح الأميركيين والعراقيين والعالم عموماً، إلا أن الإدارة الأميركية تجدها مستحيلة، لأنها ستفهم من قبل الأميركيين على أنها هزيمة سياسية كبرى للولايات المتحدة، ولن يستطيع أحد في الكونغرس أو في قيادة القوات المسلحة أن يأخذ على عاتقه مثل هذا القرار حتى وإن كان من المعارضين أصلاً لاحتلال العراق، ناهيكم عن ردود الفعل السلبية لدى الحلفاء البريطانيين والإيطاليين والأستراليين وغيرهم!
أما عن الطريقة الثانية، وهي أن يأتي طلب الانسحاب من حكومة عراقية، فإنها تعتمد بالطبع على تطورات الوضع السياسي والعسكري داخل العراق، وهي التطورات التي ما زالت الإدارة الأميركية تعمل من أجلها وتنتظرها بلهفة حتى يومنا هذا، خاصة عبر الانتخابات، لكنها ليست متأكدة من أن النتائج سوف توفّر لها الشروط الضرورية لانسحاب مشرّف يحفظ سمعتها، ويحفظ مصالحها في العراق أيضاً، وهي المصالح التي تكبدّت في سبيلها خسائر وتكاليف باهظة!

أما الطريقة الثالثة، فهي التي يسميها ايمانويل والرشتاين: سيناريو هجوم التيت! تشبيهاً لها بالهجوم الذي شنه سبعون ألف جندي فيتنامي ضدّ القوات الأميركية مطلع عام 1968، فمثل هذا الهجوم المحتمل سيجعل الولايات المتحدة تجلي موظفيها من "المنطقة الخضراء" بواسطة الطائرات المروحية، وستكون هذه أخطر بكثير من قرار بانسحاب منفرد تتخذه الحكومة الأميركية. وجدير بالذكر أن المقاومة العراقية، بعد حادث سامراء الأخير، بثت قولاً مفاده أن هذا الحادث الإجرامي ارتكب لقطع الطريق على خطة جاهزة لتحرير بغداد في الذكرى القادمة لاحتلالها!

نذير شؤم للوجود الإسرائيلي!

يقول ايمانويل والرشتاين أن معضلة الشرق الأوسط الأساسية سوف تبقى هي نفسها خلال الأعوام الخمسة المقبلة، وأن المواقع الثلاثة الحاسمة التي ستترتب عليها تغييرات أساسية في المرحلة المقبلة هي العراق، وإيران، والقضية الفلسطينية، وبصدد القضية الفلسطينية يرى والرشتاين أن تخبط الإسرائيليين وانقساماتهم سوف تشكل الضربة الأخيرة لقوتهم داخل الولايات المتحدة، وقد يتحول الصراع العربي / الإسرائيلي من موضوع لا يمكن المس به لصالح الإسرائيليين، إلى موضوع قابل للنقاش العام في أميركا، وهذا نذير شؤم لوجود "إسرائيل"! أما عن العراق فإن والرشتاين أميل إلى توقع هجوم التيت!