من الصعب جدا عدم ملاحظة امر هام وهو هام وله دلالاته ومعانيه، ان النظام السوري له علاقات جيدة وحتي تحالفية مع جميع التيارات الاسلامية والعربية التي تعمل خارج سورية من حزب الله ومرورا بحركة حماس في فلسطين وانتهاء بالنظام الايراني الاسلامي وحتي بحركة الاخوان المسلمين في السودان، ما عدا ذلك، فهو يرفض وما زال مستمرا في رفضه لاجراء اي حوار او تسوية مع تنظيم الاخوان المسلمين في سورية، الذي يعبر عن الذراع السياسية للحركة الاسلامية في سورية، هذا الرفض والتعنت الغبي دفعا زعيم التنظيم البيانوني الي عقد تحالف مؤخرا مع خدام الخارج من رحم النظام وبطانته الفاسدة.

والغريب في الامر انه لم يبن جوامع ومساجد وحلقات تدريسية اسلامية ومعاهد ولم تشهد سورية مثل هذا الحشد من الاقبال علي الدين، الا في عهد الاسدين، ولسان حال الحكم يقول افعلوا ما شئتم من صلاة وعبادة وفكر وممارسة شعائر وتحجب ومكاتب دينية لكن لا تقربوا عل شغلة واحدة، وهي اتركوا السياسة والامن الخارجي والجيش لنا لابناء السلطة أي اتركوا للقيصر هذه الامور وتدبروا اموركم الاخري وهكذا نعيش بسلام. وكأن البلد تقاسمها الحكم مع الاسلاميين، وتناسوا بأن سورية بلد الثقافة والمفكرين وبلد الانفتاح الفكري وبلد التسامح ومن شهد المجادلات والنقاشات البرلمانية ويطلع علي محاضرها في الخمسينات من القرن الماضي يقف اجلالا واحتراما لهذا البلد الذي سبق الجميع في مجال الفكر والجدل ومقارعة الحجة بالحجة.

والاغرب من هذا وذاك، ان الغربيين وعددا كبيرا من المراقبين يعتبرون ومنهم اسرائيل ان الحكم اذا فقده ابناء السلطة الحالية سيذهب للاسلاميين. وكأنه لا يوجد بين السلطة والاسلاميين تيار اخر ينادي بالديمقراطية والعلمانية الحقيقية وبالانفتاح الفكري وباحترام التعددية وعدم إلغاء الآخر، وليس قدر سورية أن تعيش بين الثكنة والمسجد. سورية بلد متسامح وله مكانته الخاصة وتنوعه الطائفي والديني ثراء لهذا البلد.

وما حرق السفارات النروجية والدنماركية مؤخرا الا عبارة عن تطرف ديني لم يكن له وجود في سورية ولكن السلطة هي التي اوجدته، اوجدت نوعين من التيارات الدينية، تيار لا يهتم الا بشعائر الوضوء والذكر والركع نهارا وليلا، وتيار اخر فوضوي ديني علي بعثي في الصباح يتحدث بالدين وفي الليل يتحدث بأمور البزنس والاعمال التجارية، وما بينهما حلقة الدراويش كفتارو وجماعته ثم النقشبندية وما تلاهم.

واضف الي هذا وذاك التيار الشيعي الصاعد بقوة من حي الامين بدمشق مرورا بحي العمارة وانتهاء بالست زينب، وهذه كلها تخضع لمراقبة عيون السلطة التي توظفها عندما تهدد كما حدث في ملف مقتل الحريري وكذلك بالرسوم الكاريكاتورية التي طالت مؤخرا الرسول (ص). النظام السوري فهم تماما التركيبة الدينية المعقدة لموازييك سورية لذلك فهو يناور ضمن هذه التركيبات ويحاول ان لا يغضب الكل دفعة واحدة بل ويرمي القسم الاكبر منهم في نفس الوقت، فهو تراه يختلف مع ابناء الزعيم الدرزي سلطان باشا الاطرش لكنه في نفس الوقت يتوجه الاسد الاب الي السويداء في منتصف الليل للتعزية بوفاة سلطان باشا الاطرش، بينما احفاده وابنه كانا في صفوف المعارضة، ونفس الامر يفعل مع وليد جنبلاط، فهو ضد الجنبلاطيين في لبنان، ولكنه مع الدروز في سورية، عملا بسياسة ضربة علي الحافر وضربة علي النابر، سياسة العصا والجزرة ونفس الامر يفعل مع المسيحيين في سورية، فهو دائما يذكرهم بأنه اول من انقذ المسحيين من هزيمة حقيقية في لبنان علي ايدي قوات جنبلاط، وعندما حصل اقتحام مركز الجنرال عون في التسعينات من طرف القوات السورية، ابعدت القيادة العسكرية السورية العاملة في لبنان الضباط المسيحيين السوريين من عملية الاقتحام، حتي لا يحصل تعاطف مع ضباط لبنان.

والنظام يساير الطائفة المسيحية في سورية بتياراتها المختلفة من كاثوليكية الي بروتستانتية الي مارونية وارثوذكسية ويخصص حلقات دينية اعلامية لها، وجعل عيد الميلاد عيدا رسميا دينيا لسورية، ولرجال الدين المسيحيين اعتباراتهم الخاصة ومداخلاتهم وعلاقاتهم داخل السلطة السياسية، والنظام اقام استقبالا حافلا مؤخرا للبابا الراحل يوحنا بولص الثاني شارك فيه الرئيس الاسد شخصيا، مستقبلا ومودعا له عندما زار سورية قبل وفاته بمدة قصيرة.

ونفس الامر يفعله مع الطائفة الاسماعيلية فهو يستقبل كريم اغا خان زعيم الطائفة ويقيم له كل مراسم الاحتفال ويشجع مؤسسته العلمية والثقافية علي منح بعثات دراسية لابناء الطائفة الاسماعيلية.

هكذا هو قدر سورية، ان تعيش بهذا الثراء الفكري والطائفي والديني، ولكن قدرها ايضا ان تنعم بنظام ديمقراطي حر وذي شفافية كاملة، بحيث لا يكون هناك رئيس الي الابد، ولا تكون هناك هيمنة لفئة معينة علي اخري، بل الجميع سواسية كأسنان المشط بحيث يحق للمسيحي كما للسني كما للعلوي او الدرزي او الاسماعيلي ان يتبوأ اعلي المناصب ولكن بشكل ديمقراطي وعن طريق الانتخابات الشفافة النزيهة الحرة.