يقول مرجع ديني في مجالسه الخاصة انه لا يمكن ان تقوم علاقات صحية وصحيحة بين دولتين جارتين اذا لم تُبْنَ على تفاهم واخلاص متبادلين وعلى احترام كل منهما سيادة الآخر وعدم تدخل أي دولة في شؤون الدولة الاخرى، والا فان هذه العلاقات ستظل تمر في مراحل متوترة ومتشنجة حتى على أمور صغيرة، لأن النيات تكون غير صافية بين المسؤولين في البلدين وتحكمها نظرية التآمر، وخصوصا عندما تكون دولة كبيرة تجاور دولة صغيرة او دولة قوية تجاور دولة ضعيفة.

ويضيف المرجع نفسه ان لبنان وسوريا هما دولتان جارتان ولا يمكن تغيير تاريخ العلاقات بينهما ما لم تتغير الجغرافيا، وبما ان لا تغيير في الجغرافيا التي تجعل الحدود مشتركة، فان تاريخ العلاقات بينهما مرتبط الى حد كبير بعلاقة الحكام في البلدين وصدق تفاهمهم وتعاونهم واخلاصهم في الدفاع عن القضايا والمصالح المشتركة لكل من الدولتين. ففي الاربعينات عندما كان التفاهم قائما بين حكم الرئيس شكري القوتلي في سوريا وحكم الشيخ بشارة الخوري في لبنان كانت العلاقات جيدة، وعندما كان يعتريها شوائب او سوء تفاهم كان الأمر يُعالَج بسرعة وبروح طيبة، وكانت هذه العلاقات تسوء عندما يكون على رأس الحكم في سوريا من يريد أن يكون التعاون مع الحكم في لبنان على أساس سيد ومسود وان تكون العلاقات بجعل لبنان يُحكم من سوريا او تحكمه سوريا في كل المجالات، كما حصل في زمن الوصاية على مدى 30 عاما.

وبعدما انتهت الوصاية على لبنان بانسحاب القوات السورية من كل أراضيه، تبين ان هذا الانسحاب لم يكن كافيا لجعل لبنان يستعيد سيادته الكاملة وقراره الحر المستقل، اذ ظل لها في الداخل قوى حليفة تشكل نصف قوة السلطة، وهذا النصف قادر على عرقلة أعمال النصف الآخر من السلطة، فاذا بالقرارات السياسية ليست واحدة، والقرارات الامنية ليست واحدة، حتى القرارات المالية والاقتصادية ليست واحدة ايضا، وإذا بنا بسلطة ذات رأسين او قوتين تشد كل واحدة منهما في اتجاه معاكس، وتبقي الوضع في لبنان في حالة مراوحة او في حالة دوران في حلقة مفرغة. فلا قوى 14 آذار قادرة على تغيير هذا الوضع الشاذ فتتغلب على قوى 8 آذار، ولا قوى 8 آذار قادرة على التغلب على قوى 14 آذار. واذا كان التغيير المطلوب يجب ان يبدأ من رأس الهرم، فان هذا التغيير بدا صعبا ان لم يكن متعذرا، لأن الاكثرية النيابية التي انبثقت من الانتخابات النيابية ليست كافية لاحداث التغيير الكامل وبالطرق الدستورية، وأن اللجوء الى الشارع لاحداث التغيير له محاذير ومخاطر ليست البلاد في وضع القادر على تحمل نتائجها وتداعياتها.

واذا كان لا مجال لاحداث التغيير الا بالتوافق بين الجميع وتحديدا بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار، فان هذا التغيير قد يقتصر على ابدال شخص بآخر او بابدال أشخاص بأشخاص آخرين قد يستمرون في النهج ذاته وفي الاداء نفسه فيما التغيير المطلوب ليس في الاشخاص فحسب، بل في الذهنية وفي اسلوب الحكم وفي سير عمل المؤسسات بعيدا عن المحاصصة واسترضاء المحاسيب والانصار، كي يصير في الامكان وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والقضاء على الفساد المستشري في جسم الدولة.

ويرى مسؤول سابق ان الخطأ الذي وقعت فيه قوى 14 آذار ومعها المجتمع الدولي الذي يرعى الوضع في لبنان هو عدم اكمال حركة التغيير بحيث تصبح السلطة واحدة بفريق عملها الواحد كما كان يحصل عند انتقال لبنان من عهد الى عهد اذ لا يعقل ان تقوم حركة تغيير ناجحة في أي دولة ويبقى رئيس هذه الدولة في منصبه، كما انه لا يعقل ان تقوم حركة تغيير ناجحة ونصف ما بقي من السلطة موال لدولة اخرى او مدعوم من هذه الدولة ، كما هي الحال مع سوريا التي تكرر القول بصراحة بلسان كبار المسؤولين فيها وتحديدا بلسان الرئيس بشار الاسد في خطابه امام مؤتمر الاحزاب العربية:

"ان سوريا لم تبدأ تحركها بعد ضد معارضيها اللبنانيين" الذين وصفهم بأنهم "أدوات غير فاعلة لقوى أجنبية" تضع نفسها بإمرة الآخرين للتآمر على سوريا، مشيرا الى ان مصيرها هو الفشل الذريع، وأن الاكثرية الوطنية في لبنان ليست أكثرية مال ولا مقاعد برلمانية وانما هي مع العلاقة الجيدة مع سوريا، وأن الرئيس اميل لحود بات عنوان الهجوم على سوريا بعدما فشلت العناوين الاخرى في تحقيق أهدافها. وأكد ما قاله سابقا وهو أن ما يحصل الآن في لبنان هو عابر وموقت، وأنه سيظل يدعم التيار الذي يدعمه بغض النظر عن نتائج الحوار وعما اذا كان البعض يريد أن يذهب بلبنان الى معارك او الى هدوء.

وتساءل المسؤول السابق ما الذي جعل الرئيس الاسد يستمر في التدخل علنا في شؤون لبنان الداخلية ويعلن بصراحة دعمه لفئة في لبنان ضد فئة اخرى، في حين ظن البعض ان انسحاب قواته من لبنان قد يكون كافيا لوقف هذا التدخل.

الواقع، ان الرئيس الاسد عندما اطمأن الى ان نظامه باق وغير معرض للتغيير لاعتبارات محلية واقليمية ودولية، وان التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الحريري سيطول وقد لا يمس سوريا، فانه لم يعد يتأثر بأي شكل من اشكال الضغوط الدولية، ولا يستجيب للدعوات التي تطالبه بتغيير سلوك هذا النظام لأن لكل نظام سلوكه، وليس بالسهولة تغيير هذا السلوك. لذا فان لبنان بات في مثل هذا الوضع عرضة لشتى الاحتمالات، وربما لتغيير ما حصل من تغيير ولو جزئي، لأن المجتمع الدولي، وهو راعي الوضع في لبنان، قد يكون تركه يواجه خلال فترة الانتظار هذه لعبة القط والفأر مع سوريا، او وضع الجبنة أمام الهر!!