<<لا وجود لدولة أخرى في التاريخ قبلت وجود ميليشيات منظمة داخل الدولة>>. قيل هذا الكلام في الولايات المتّحدة الأميركية، في ولاية نيويورك تحديداً، أي في الولاية التي تحوي ما بين عشرين وثلاثين ميليشيا مسلّحة منظّمة. فلا بدّ أن يكون أحد الحاضرين الأميركيين قد همس في أذن النائب اللبناني صاحب العبارة السابقة: <<سعادة النائب، دعنا لا نتحدّث عن الدول الأخرى وعن التاريخ. أنت تقف الآن على أرض دولة تكاد لا تخلو أيّ من ولاياتها من الميليشيات المسلّحة>>. طبعاً، لا يعني هذا الوضع بالنسبة إلى البيت الأبيض أنّ الدولة الأميركية منقوصة السيادة. فالسياق التاريخي فرض وجود هذه الميليشيات التي تتلقّى تدريبات عسكرية، ويحمل معظمها أفكاراً يمينية متطرفة، وبعضها أفكاراً عدائية تجاه الدولة الفيديرالية. ونظراً للولع المستجدّ للنائب اللبناني بعلم الجغرافيا والخرائط، لا بأس أن يكون أحد الحاضرين الأميركيّين قد سلّمه خريطة للولايات المتحدة موزّعة عليها نقاط حمراء تشير إلى أماكن تواجد الميليشيات المسلّحة فيها. وهي، على أي حال، خرائط لا يحتاج البحث عنها معرفة بالإنترنت، فهي ممّا يجده أيّ طالب يدرس علم الاجتماع في الجامعات الأميركية بين كتب سنته الأولى.

لكن لندع الولايات المتحدة الأميركية جانباً. فالتصريح الذي أدلى به سعادة النائب في نيويورك نابع من فكرة باتت تتردّد على ألسنة عدد من السياسيين اللبنانيين منذ صدور القرار 1559. تقوم هذه الفكرة على مبدأ <<احتكار الدولة لوسائل العنف>>. وهي فكرة تعود، كما هو معلوم، إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وتحديداً إلى محاضرته <<السياسة كدعوة>> التي ألقاها العام 1917 والتي عرّف الدولة فيها كونها <<الجماعة البشرية التي تحتكر (بنجاح) الاستخدام الشرعي للقوة>>. بناء على هذه الفكرة الفيبرية (نسبة إلى فيبر) التي أصبحت أكثر رواجاً مع تبنّي عدد من الحكومات شعار مكافحة الإرهاب، كرّت تصريحات لبنانية مفادها أنّه لا يمكن بناء دولة ذات سيادة ما لم تحتكر الدولة وسائل العنف.
غير أنّ إقحام ماكس فيبر في نقاشاتنا السياسية على النحو الذي تقوم به قوى الرابع عشر من آذار لا ينمّ عن نيّة بناء دولة حديثة، بقدر ما ينم عن ميل عظيم لدينا إلى التعاطي مع الفلاسفة كحكماء القرى الذين يردّدون الأمثال الشعبية أو الأقوال المأثورة. وفي هذا السياق، لا بأس من تسجيل عدد من الملاحظات:

أولاً، إنّ مستخدمي حجّة ماكس فيبر يتناسون أن المفكر الألماني بتعريفه الدولة كجهاز محتكر للعنف الشرعي لم يقصد بذلك أنّ الدولة هي الجهة الوحيدة التي تمتلك وسائل العنف وتستخدمها. بل قصد أنّ الدولة هي الجهة التي يعود إليها إضفاء الشرعية على أي وسيلة عنف داخل أراضيها. فيقول فيبر مباشرة بعد تعريف الدولة إنّ ما يعنيه هو أنّ الدولة هي <<مصدر الحق في استخدام العنف>>، وهذا يعني أنّه يُسمَح للأفراد والمؤسسات أن يستخدموا العنف إن أعطتهم الدولة الحق بذلك. وهذا ما تفعله الدولة يومياً حين تعطي رخص السلاح لبعض المواطنين مثلاً، آذنة لهم باستخدام العنف في مواقف محدّدة. ويمكن في هذا السياق إدراج مطالبة <<حزب الله>> للحكومة بالقول إنّه مقاومة وليس ميليشيا. فهذا التمييز الساذج ظاهرياً يعني عملياً أنّ الدولة قد أعطت <<حزب الله>> الحق في ممارسة العنف ضد المحتلّ. وهو بذلك لا يناقض التعريف الفيبري للدولة، ولا يتعارض مع فكرة احتكار الدولة للعنف.

ثانياً، من غير الواضح أنّ ماكس فيبر حين عرّف الدولة بالوسائل التي تستخدمها، وليس بالغايات التي ترمي الوصول إليها، كان يضع شروطاً لقيام الدولة. فلا نجد لدى فيبر مقولات من نوع <<يجب أن تحتكر الدولة العنف>>. ما رمى إليه فيبر هو توصيف الدولة الحديثة كما رآها لا وضع شروط لقيامها. ففيبر الذي وافق ماركس على أنّ ظهور الدولة الحديثة قد ترافق مع تمركز لرأس المال، أضاف إلى هذا التمركز الاقتصادي تمركزاً لأدوات العنف في أيدي جماعة معيّنة. وهو حين تحدّث عن احتكار العنف يكاد شكلاً يشبه لينين حين عرّف الدولة على أنّها الجهاز الذي تسيطر عبره البورجوازية على المجتمع. فحين أدلى لينين بدلوه لم يكن بالطبع يقصد أنّه <<يجب أن تكون الدولة جهازاً تسيطر عبره الدولة على المجتمع>>.
ثالثاً، إنّ نظرية فيبر في الدولة هي نظرية واحدة من ضمن عدد كبير من النظريات التي لا يزال النقاش دائراً في ما بينها من أجل تحديد مفهوم الدولة. وقد أنتجت الماركسية وحدها عدداً لا يحصى من التعريفات للدولة. فليس في علم الاجتماع إجماع حول فيبر ونظريته. وقد ازدادت الشكوك حديثاً حول فائدة اعتماد نظرية فيبر من أجل فهم العديد من الدول، لا سيّما في العالم الثالث. ولعلّ واحداً من أبرز الداعين إلى النظر إلى هذه الدول بعدسات غير فيبرية هو الباحث جويل ميغدال، الذي كتب أعمالاً عدّة تتعلّق بدول الشرق الأوسط تحديداً.

يدعو ميغدال صاحب كتاب <<الدولة داخل المجتمع>> إلى النظر إلى الدولة كجزء من المجتمع تؤدّي دورها الخاص إلى جانب تشكيلات اجتماعية أخرى تقوم بدورها هي الأخرى، من دون أن تهيمن أيّ من هذه التشكيلات، دولة كانت أم قبيلة أم طائفة، على أخواتها إلا في حالات استثنائية. فالدولة تساهم في صياغة المجتمع تماماً كما يساهم المجتمع في صياغتها. والمجتمع هو بدوره مزيج من التشكيلات الاجتماعية التي تدخل في ما يشبه المفاوضات المستمرّة مع الدولة حول القواعد التي تتحكّم بسلوك الأفراد الذين ينتمون عادة، وفي الآن نفسه، إلى أكثر من تشكيل اجتماعي. ولا بأس من الملاحظة أنّ ماكس فيبر حين تحدّث عن نجاح الدولة في احتكار الاستخدام الشرعي للقوة، وضع كلمة نجاح بين هلالين.

لكنّ مشكلة الانطلاق من تعريف فيبر، كما يستخدم في الحياة السياسية وفي بعض الأوساط الأكاديمية، تكمن في اعتبار أيّ دولة لا تستوفي <<شروطه>>، وكأنّها دولة تبتعد عن نموذج مثالي. يقول ميغدال إنّ هذه الرؤية تجعل من المجتمع إمّا خاضعاً لهيمنة تشكيل اجتماعي واحد يحدّد له القواعد ويمتلك وسائل القوة لفرض هذه القواعد، وإلا فإنّنا أمام دول فاشلة أو لا دول. فلنأخذ باكستان مثلاً. باكستان دولة قوية ذات سيادة تمتلك السلاح النووي ومحكومة من قبل جنرال أتى إلى الحكم من صفوف الجيش. ومع ذلك، لا يعني هذا أنّ الدولة الباكستانية هي وحدها من يفرض قواعده على القبائل، أو أنّ القبائل لا تمتلك هي الأخرى أدوات عنف. هل سيقودنا ذلك إلى الاستنتاج أنّ ما من دولة في باكستان، أو أنّ باكستان دولة غير مكتملة أو فاشلة؟
إنّ الانطلاق من فكرة أنّ لا إمكانية لبناء الدولة في لبنان ما دام <<حزب الله>> يحتفظ بسلاحه هو قول فيه الكثير من الخطل الذي لا يفعل سوى إغلاق باب الحوار. وهو بهذا المعنى الوجه الآخر للقول إنّ السلاح هو قدس الأقداس وإنّ التفاوض بشأنه مستحيل. تراجع <<حزب الله>> عن قداسة سلاحه. فهل يتراجع الآخرون عن قداسة الدولة الفيبرية، لا سيّما أنّ وجودهم على طاولة الحوار كزعماء طوائف هو الإثبات أنّ الدولة اللبنانية لا يمكن النظر إليها من منظور فيبري؟