د. فيصل القاسم

ساذج كل من يعتقد أن الهدف من العولمة جعل العالم قرية واحدة تتفاعل فيها الشعوب والثقافات سياسياً واقتصادياً وإعلامياً لصالح البشرية جمعاء. ربما كان ذلك صحيحاً لو أن الأمم المنصهرة في العولمة متساوية في الأهمية والتأثير وتريد أن تتحد وتستفيد من بعضها البعض في عالم أوسع. لكن بما أن العالم مقسم إلى جنوب متخلف وشمال متطور، فإن نتيجة الانصهار الكوني ستكون بلا شك في مصلحة الأقوياء خاصة وأنهم هم الذين يدفعون باتجاه إسقاط الحدود بين الدول وتحويل المعمورة إلى ساحة واحدة. لا عجب إذن أن تسمع البعض يقول إن العولمة ما هي سوى الامبريالية القديمة التي غيرت جلدها وشكلها كي تصبح أكثر قبولاً لدى العالم وخاصة لدى أولئك الذين يخشون على ثقافاتهم وهوياتهم وثرواتهم من الجشع الامبريالي والاستعمار الكوني.

وكي لا يعتقد البعض أن هذا الكلام ضرب من ضروب الثرثرة اليسارية السخيفة التي ما لبثت تحذر من الرأسمالية المتوحشة التي تحاول التهام العالم، فإن الذي يفضح مقاصد العولمة المزعومة هم سادتها، فهم الذين يبشروننا بعالم واحد متوحد من جهة ومن جهة أخرى يقيمون الحدود والجدران العازلة والعوائق الكأداء أمام الانفتاح العالمي وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي وهما عصب التعولم المنشود. فقبل سنوات خرج علينا منظرو العولمة ليتحدثوا عن عالم جديد لا حدود فيه ولا سدود، تحكمه حالة انسياب كاملة للمعلومات والافكار ورؤوس الأموال والبضائع والأشخاص وتتراجع فيه سيادات الدول أمام مشاريع الشركات. لكن يبدو أن المقصود بالشركات ليس كل شركات العالم بل الشركات الأمريكية والمتحالفة معها دون غيرها كي تصول وتجول على هواها دون حسيب أو رقيب.

لقد جاءت الحملة الأمريكية الهائلة ضد شركة موانئ دبي العالمية لتميط اللثام عن تلك الكذبة الكبرى المسماة العولمة أو التجارة الحرة. فقد عقدت الشركة صفقة مع السلطات الأمريكية تقوم الشركة الإماراتية بموجبها بإدارة موانىء نيويورك وميامي ونيوارك في نيوجيرسي وبلتيمور في مريلاند ونيو اورلينز في لويزيانا وفيلادلفيا في بنسلفانيا. وقد بلغت قيمة الصفقة حوالي سبعة مليارات دولار. لكن بما أن المطلوب من العولمة أن تكون أحادية الجانب، أي أن يهيمن الأقوياء على الضعفاء ويمارسوا بحقهم السلب والنهب والاستغلال المنظم، فقد ثارت ثائرة الشركات الأمريكية. كيف تسمحون لشركة عربية أن تدير بعض موانئنا وتكسب الملايين من ورائها؟ هذا أمر مرفوض جملة وتفصيلاً. وهل صدقتم كذبة التجارة الحرة وسقوط الحواجز الاقتصادية والتجارية؟ فعلاً إنكم مغفلون. ألا تعلمون أن كل تلك التسميات الكبرى كالديمقراطية والعولمة ما هي إلا شعارات وهمية يستغلها سادة العالم لتمرير مشاريعهم وفرض هيمنتهم؟

لا ضير في أن تستبيح الأساطيل الأمريكية المياه الدولية، ولا ضير في أن تصبح أمريكا جارة لكل بلد في هذا العالم بفعل قواعدها العسكرية الممتدة حتى حدود الصين، ولا ضير في أن تغزو القوات الأمريكية بعض البلدان دون أي رادع، ولا ضير في أن تنهار الحدود أمام الشركات الأمريكية العابرة للقارات، ولا ضير في أن تستباح سيادة الدول بحجة التجارة الحرة، ولا ضير في أن تصبح كل موارد الطاقة في العالم تحت سيطرة العم سام، ولا ضير في أن تفرض المنتوجات الأمريكية على كل القارات تحت التهديد الاقتصادي والابتزاز التجاري، ولا ضير في أن تجتاح الثقافة الأمريكية كل بقاع الأرض. كل ذلك جزء من العولمة. أما أن تتجرأ شركة عربية على الاستثمار في بلاد سادة العولمة وتفوز بصفقة كبيرة فهذا رجس من عمل الشيطان. عليكم أن تفتحوا كل حدودكم أمامنا، لكن إياكم ثم إياكم أن تحاولوا عبور حدودنا.

ولو اقتصر الأمر على الجانبين التجاري والاقتصادي لقلنا إن الرزق غال ولا بد من حمايته بالنواجذ ضد القادمين من وراء الحدود. لكن الأمر امتد إلى الإعلام لتصبح "السموات المفتوحة" خرافة جديرة بالازدراء والسخرية. فلا بأس أن تخترق وسائل الإعلام الغربية حدودنا وتفتك بعقول شباننا وشاباتنا بدعوى الانفتاح والتعولم، لكن عندما يصل بث بعض قنواتنا الفضائية العربية إلى أوروبا وأمريكا، فيتحرك سادة العولمة لسد السموات في ووجها ومنعها من الوصول إلى المشاهدين الغربيين تحت حجج واهية. وقد شاهدنا كيف تم منع بث فضائية المنار اللبنانية في أوروبا بعد أن أزاحوها من الأقمار الصناعية الغربية، ناهيك عن الضغوط الرهيبة على وسائل الإعلام العربية الأخرى. وهذا يؤكد ما ذهب إليه الكاتب والباحث نصر شمالي عندما تحدث عن "الحرب الذهنية" الأمريكية التي تتضمن شن حروب ثقافية مفتوحة ضد الشعوب. وقد بدأ الأمريكيون بإرساء أسس تلك الحرب العقلية منذ عام 1980، حيث أعدّ الكولونيل السابق بول فاليلي دراسة تحت عنوان (من الحرب النفسية الي الحرب الذهنية: سيكولوجيا النصر. و"يتحقق ذلك عبر وسائل الإعلام التي تمتلكها الولايات المتحدة، والتي تملك القدرة علي الوصول الي جميع الشعوب في أي مكان علي وجه الأرض، وهذه الوسائل الإعلامية تشمل الإعلام الإلكتروني إضافة الي الإذاعة والتلفزة، وتشمل اتصالات الأقمار الصناعية، وتقنيات تسجيلات الفيديو، ووسائل الإرسال الإذاعي عبر الليزر والحزم البصرية، الأمر الذي سيمكّن من اختراق أذهان البشرية في العالم أجمع بفعالية! ويعتقد الأمريكيون أنهم يملكون من أدوات اختراق الذهن البشري العام، وتطويعه وتنظيمه على هواهم" بحيث يلهمون الثقافات الأجنبية بتبني أخلاقياتهم. والمرعب في الأمر أن هناك توجهاً أمريكياً حسب بعض الخطط الاستراتيجية لحرمان الآخرين من الوصول الى الشعب الأمريكي. بعبارة أخرى فإن المطلوب ثقافياً وإعلامياً التأثير في الخارج لكن دون السماح لذلك الخارج أن يؤثر في الداخل الأمريكي الذي حسب التوجه المنشود يجب أن يبقى محمياً إعلامياً وثقافياً من أي تأثيرات خارجية. إنها الحمائية الثقافية في أجلى صورها، فمن جهة يريدون للعالم أن يستقبل إعلامهم وثقافتهم بصدر رحب بدعوى القرية الكونية الواحدة المنفتحة على بعضها البعض، ومن جهة أخرى يتصدون لأي جهة تحاول الوصول إلى عقول شعوبهم. وإذا ظن البعض أن العالم أصبح مفتوحاً للجميع من خلال وسائل الاتصال الحديثة فهذه إسطورة يجب دحضها. وقد رأينا كيف بدأ بعض المفكرين والإعلاميين الأمريكيين يضيقون ذرعاً بكذبة المجتمع المفتوح ويحاولون فضحها من خلال كشفهم للجهات المالكة لوسائل الإعلام والمعرفة في أمريكا التي لا يزيد عددها عن أصابع اليد.

ويحدثونك بعد كل ذلك عن العولمة الاقتصادية والتجارية والثقافية والإعلامية والانصهار الكوني! أليست بربكم عولمة باتجاه واحد إجباري؟