عبد اللطيف مهنا

فشل حوار ساحة النجمة اللبناني أم لم يفشل؟!
توقفه، أو تأجيله، ولو لأيام شارفت على الانقضاء، برر مثل هذا التساؤل...

سبق انعقاده ورافقه وأعقب تأجيله، حفلة لبنانية الخصوصية من إطلاق مكثف للتصريحات المطمئنة، التي لم يتخلّف عن المشاركة فيها فريق واحد من طرفي جبهتي هذا الحوار النقيضين بموقعيهما المتباعدين. أجمع مطلقيها، وهم الذين عادةً قلما أجمعوا على أمر، على ضرورة التمسك بالنواجذ بهذا الحوار باعتباره ضرورة وطنية لا يمكن التحول عنها... رفعوا جميعاً أو كادوا شعاراً حازماً جازماً: ممنوع الفشل... فكان المشهد من شأنه أن يوحي للبنانيين والعرب والعالم بأن المتحاورين متيّمون بحوارهم هذا، بحيث بدوا للنظارة من بعيد، وكأنما هم اقتنصوا فرصةً فريدة لا تعوّض، لولوج رحاب ما كانوا ممنوعين من مقاربته أو كانوا مكرهين على عدمه... الأمر الذي استدعى سؤالاً، مثل:

هل هو حقاً حوار يعقده اللبنانيون لأول مرة في تاريخهم بعيداً عن تأثيرات الآخرين، أو في مآمنٍ من تدخلات راعٍ أو وصي؟!
تأجيل الحوار، ربما المفاجئ للبعض وغير المفاجئ لكثيرين، أجاب في جزءٍ منه على مثل هذا السؤال. وزاد فأسهم في تبديد جميل الأوهام، أو مستحب الآمال التي علقت عليه... وطرح سؤالاً آخراً:

ترى، هل هذا التأجيل هو، كما المعلن، إلى حين، أم أنه سيتوالى فصولاً وإلى أمد لا يقترب إلا ليبتعد؟!

غداً، الإثنين، عندما تلتئم مجدداً الأطراف المتحاورة، كما تقرر، سيأتيك بالأخبار من لم تزود!...لكن انتقال هذا الحوار، فور خروج المتحاورين وإعلان التأجيل، إلى حيث العواصم البعيدة بحثاً عن المخارج أمر لا يدفع للكثير من التفاؤل، إن لم يكن بتواصله فعلى الأقل في حصيلته... يعزز ذلك أيضاً، ما بدا وكأن المتحاورين قد لجأوا إلى فاصل زمني، أو استراحة محارب، ليعاودوا حوارهم، ربما انتظاراً منهم لما قد تنجلي عنه أنباء تلك العواصم... أو ما قد تسفر عنه طبخات تقررها عادةً وصفات المطابخ الفعلية ذات الوجهين الداخلي والخارجي... وأيضاً، الكلام عن ترحيب مفاجئ بالمبادرات العربية، التي كان من غير المرحّب بها عند من يطلق عليهم فريق الأغلبية، والتي يعلم الجميع إنها لا زالت مبادرات ممنوعة!

المتحاورون لم يتفقوا بعد إلا على الفلسطينيين، أو تحديداً، نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، و ضبطه داخلها توطئة لنزعه... وكلام عام عن ضرورة حل مشاكلهم "الإنسانية"!

أما باقي المختلف عليه، فالخلاف لا زال هو الخلاف، وعلى:
لبنانية مزارع شبعا المحتلة، سلاح المقاومة، العلاقة مع سوريا، رئيس الجمهورية، سواء أكان إقالة الموجود في سدة الرئاسة أو التوافق على من يخلفه... وأضيف إلى مثل هذه القضايا الوطنية الكبرى قضية أخرى، هي مزمنة وشائكة وتستفز عادةً الغرائز الطائفية، هي التوافق على قانون للانتخابات، حيث استقال إثنان من عضوية اللجنة المكلفة بصياغته حرداًً أو تظلماً، نجم عن خلاف على ما توصلت إليه!

وفي حومة الحملة المستمرة على رئيس الجمهورية، وطرح البعض مسألة رحيله باعتبارها أولوية تأتي على رأس ما عداها، كان التأجيل من شأنه أن أوحى وكأنما لم يكن الحوار ليعقد إلا من أجل خلعه وفرض تنصيب خليفة "أرزيّ" التوجه محلة... أما باقي القضايا الأخرى المشار إليها، فليست سوى مواد ضغط أو نقاط مساومة للوصول إلى مثل هذا الهدف؟!...وعودة إلى احتمالات الفشل من عدمه... لا يعدم متوقعوا الفشل، أو المتشائمون، من الإشارة إلى اللاءات الجنبلاطية المرسلة من واشنطن لتطال قذائفها ساحة النجمة ومحاوريها. تلك التي فعلت شظاياها فعلها بهم، فكادت أن تغتال الحوار، وأسهمت في تأجيله، أوهي وحدها في ظن البعض من تسبب في ذلك. بل وحتى ربما تؤدي إلى تصدع قد يطال جبهة "الأرزيين" أنفسهم، وهناك ما يلوح من بوادر لذلك... اضف إلى ذلك، استمرار دوران ماكينة التهجم على سوريا، والتحريض على الفلسطينيين، والتشكيك في لبنانية المقاومة... فاختلاط الأولويات الحوارية تحت طائلة تلك اللاءات المشار إليها... ويمكن أيضاً أن يوضع في الحسبان، رغبات الوزيرة كونداليسا رايس الأشبه بالأمر اليومي، وفق تعبير اللبنانيين، وهمسات السفير فيلتمان، وزميله الفرنسي، وصولاً إلى ثوابت الرئيس جاك شيراك، واجتهادات تيري رود لارسن... حيث تندر اللبنانيون بأن برلمانهم إبان الحوار كان محاصراً بعيون السفراء وآذانهم، وظل إبان انعقاد حوار المواقع المتباعدة والجبهتين النقيضين تحت طائلة همساتهم الوصائية... ويزيد من تشاؤم المتسائمين:

ربط ما لا يربط من القاضايا الوطنية الكبرى مساوماتياً، وانعدام الثقة المتبادل في ظل انبعاث ثقافة فريدة تجيز تبدّل الولاءات بتبدل التوازنات، وتبرر تغيّر المبادئ بتغير سانحات الفرص، بل لعل حتى مواصلة الالتزام المفترض تجاه الحلفاء لم يعد، على ضوء ما أبدته المواقف مؤخراً، بالأمر الموثوق به... ثم كيف يمكن حقاً بناء دولة، كما يتنادى لذلك كل المتحاورين، على أسس طائفية تفتقر إلى الثبات، وتظل بطبيعتها دائمة الارتجاج؟!
وكيف أيضاً الفصل بين المترابط من تلك القضايا المختلف عليها، والتي لا يمكن تجزأتها إذ يشد بعضها بعضاً؟

واستطراداً، وفي ظل ما يبدو أقرب إلى التفاوض السياسي بغية انتزاع محاصصة في القرار وليس حواراً وطنياً لحل قضايا وطن وبناء دولة، هل لمن لا يتفقون على تحديد معسكري أعدائهم وأصدقائهم، وبالتالي التوافق النهائي على هوية بلدهم، أن يتفقوا على ما تبقى من قضاياهم صغرت أم كبرت... هل للقوى الطائفية المنطلق أن تلتقي حقاً على مشروع سياسي واحد؟!

هل، الاستعانة بالخارج على الداخل، وحتى ولو حق الاستغاثة بالأشقاء العرب، تشي بغير انعدام الإرادة الوطنية الجامعة... كيف لا يجد البعض بأساً في طلب الوصاية وهو لم ينفك يتغنى بالسيادة والاستقلال؟!...وحتى لا نغرق في سرد دواعي التشاؤم، على ماذا يستند المتفاءلون؟

في المقدمة تأتي معضلة أن ليس هناك طرفاً لبنانياً يتحمل مسؤولية فشل الحوار، بما في ذلك من قصف حوار ساحة النجمة من واشنطن... ويتلو ذلك الوضع الاقتصادي المتزايد سوءاً، أو الذي، وفق ما يحذر منه الاقتصاديون، غدا على شفير الانهيار، أو لم يعد يتحمل مزيداً من عدم الاستقرار. ثم أن الجميع مع نوع من الحفاظ ولو على الحد الأدنى من السلم الأهلي... ولهذا نسمع شعاراً من نوع: ممنوع الفشل!!!

لكن، هل الشعارات وحدها تكفي؟

ثم، ألا يمكن أن يطرح مثل هذا الشعار وكأنما هو نوع من محاولة فرض الأجندة من قبل طرف على الآخر... أي اقبلوا بما نطرح وإلا فالطوفان؟!

المشكلة في أن فشل الحوار، لا سمح الله، سيكون سبباً إضافياً لمزيد من انعدام ثقة اللبنانيين التقليدية بطبقتهم السياسية، وأن يزيد بالتالي من قناعاتهم بأن لا خيار سوى المبادرات والتدخلات الخارجية لإخراجهم مما هم فيه.

ثم أن الفشل في حد ذاته أقرب الطرق إلى مزيد من جنوح طائفي مزمن من شأنه أن يؤدي لا محالة إلى الاحتراب الأهلي، وإن كان هو الأمر الذي لا يرغب في مجرد تصور وقوعه أغلب اللبنانيين.

لعل المشكلة تكمن في كونها وليدة أزمة نظام سياسي بني أصلاً على المحاصصة الطائفية، وتهمين عليه منذ إنشاء لبنان طبقة سياسية تختزل في أشخاصها طوائفاً بكاملها، ولا تفرق كثيراً بين مصالحها الشخصية والمصالح الوطنية، وهو خلط لا يمنع إمكانية الإصلاح السياسي فحسب، بل يدفع أصحابه غالباً إلى التهرب من رمضاء الالتزامات القومية للبنان باتجاه نيران الوصاية الأجنبية.

لكن، وللإنصاف، علينا أن لا ننسى بأن لبنان المأزوم يظل جزءاً من أمة بكاملها تعيش أوضاعاً مأزومة، أي لا يمكن فصل ما يجري فيه مثلاً عما يجري على امتداد خارطتها المستباحة... لا يمكن فصله عما يجري في العراق وفلسطين ودارفور، وأية عناوين أخرى قد تطل بها الأيام علينا... وعلينا أيضاً أن لا نفصل ما يجري في هذا البلد الصغير الصاخب عن تداعيات بارومتر التخبط الأمريكي، المتأثر سلباً بمعوقات المشروع الأمريكي في المنطقة والعالم... بالورطة العراقية، وفشل حروب بوش الكونية على عدوه اللامرئي المدعو الإرهاب، وبوادر تفكك جبهة الملتحقين بها، أو القابلين ببلطجة الاستباقية الأمريكية، وكذلك تدهور ثقة أصدقاء واشنطن بها وبنواياها وسياساتها، وازدياد اتساع جبهة الرافضين والممانعين والمقاومين لهذه السياسات، بالتوازي مع تعاظم مساعي مراكز القوى الكونية المختلفة الطامحة للانعتاق من تفرد أحادية القطبية... لقد قالها السفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زاد... قالها بالتزامن مع اعتراف لوزير الحرب رامسفيلد بأن العراق المحتل، وبفضل الاحتلال يسير حثيثاً نحو حرب أهلية، مطمئناً الكونغرس بأن جيشه المحتل هناك سوف يتفرج على المتحاربين دون أن يتدخل باعتبار ذلك من شأنهم وحدهم... قال زاد:

"لقد فتحنا أبواب الشر"... ولعل لبنان، كما العراق وفلسطين ودارفور، والعناوين المقبلة، يراد له أن يأخذ نصيبه من هذا الذي فتحوه !!!