تناولنا العشاء في لندن، زوجتي وأنا، مع اثنين من الأصدقاء الأعزاء وزوجتيهما. وعندما تتكرر اللقاءات بين الأصدقاء، لا يعود هناك جديد. النكات قيلت أكثر من مرة. وأسماء الأدوية المفضلة ذكرت أكثر من مرة. والمواقف السياسية وكل موضوع قابل للبحث أو للسلوى. الجديد تلك الليلة، أنني عرفت أن الصديقين درسا في القاهرة خلال فترات متباعدة قليلاً. وهكذا بدأ كلاهما يتحدث عن سنوات الأنس في أم الدنيا. ولم يقتصدا في الحكايات، لأن جميع الحاضرين على الطاولة، قطعوا العمر الذي يثير غضب الزوجة أو مخاوفها أو حتى شكوكها.

جاء حديث السينما. طبعاً قبل الألوان، أي أيام الأسود والأبيض. وروى احد الصديقين كيف خرج عمر الشريف من صفه وعاد نجماً. وكان يتحدث عن «عمر» ويهز رأسه، بما معناه، أيوه يا دنيا، أيوه كدا. وشعر الصديق الآخر برغبة في التصدي، فقاطع قائلاً، وهو يهز رأسه علامة «والله زمان يا سلاحي»: «هل تذكر أيام صداقتي مع داليدا؟». وعض الصديق الأول على شفتيه وأجاب بنعم. أما أنا ففوجئت حقاً، وسألت بكل سذاجة: «تقصد داليدا داليدا ما غيرها؟». هز رأسه شامتا، ثم قال، «وهل عرفتها»؟

قلت، أبدا. كل ما في الأمر أنني كلما ذهبت إلى تلة مونمارتر للتفرج على باريس من فوق، أمر أمام بيتها السابق وأتوقف أمام التمثال الذي أقيم لها. ولكي لا أبدو غبياً تماماً في شأن البنت المصرية التي جاءت من شبرا لتصبح إحدى أشهر مغنيات فرنسا، أضفت: «مسكينة. لم تعش حياة سعيدة. جميع الذين أحبوها انتحروا، ثم عادت فانتحرت».

كانت زوجته صامتة حتى الآن وغير مكترثة. لكنها تطلعت في زوجها وكأنها تريد التأكد من أن لعنة داليدا لم تلحقه. وعدت أثير الموضوع من جديد: هل دامت الصداقة طويلاً؟ وهمهم بافتخار. أي نعم، طويلاً. وسألت، في سذاجة مطلقة: «يقال إنها لم تكن جميلة كما هي في الصور، وإن طباعها كانت ريفية جداً، وهذا ما خلق لها مجموعة من عقد النقص في باريس».

وضرب الشوكة على الطاولة بهدوء، طالباً أن نصغي جميعاً إلى رده، وقال: «ألم تتعلم بعد ألا تصدق كل ما تقرأ وما يقال». ووافقت معه. ثم قلت، وفي السذاجة نفسها: «لو بقيت حية كم كان عمرها الآن؟ ثمانون؟». وتدخلت زوجته وعلى مبسمها علامة النصر، وقالت له: «تفضّل. اجب يا دون جوان عصرك». فتطلع إلي صديقنا الآخر وقال بإذلال: «بعدك عم تشوف عمر»؟