لا أعرف بم كان المثقفون العرب سيشغلون أنفسهم، لولا وجود سياسة خارجية للولايات المتحدة... عالمية وشرق أوسطية! لا أدري متى سيتوصل هؤلاء المفكرون إلى أن مفاتيح المستقبل العربي في القاهرة والرياض وبيروت وبغداد والرباط والخرطوم، وليس على الإطلاق في واشنطن ولندن ونيويورك! لماذا نتصرف عند كل نقطة تحول تاريخية، كذاك الكهربائي الكسول الذي رفعه زميله على كتفه لتغيير "اللمبة" فظل ممسكاً بها... بانتظار أن يدور به زميله!
أقول هذا الكلام، بمناسبة هذه المقالات المتوالية في الصحافة العربية ضد الرئيس بوش والمحافظين الجدد والسياسة الأميركية المتعثرة في الشرق الأوسط، والنتائج المعاكسة التي جنتها الحملة الديمقراطية الأميركية بفوز "الإخوان المسلمين" في مصر، وفوز "حماس" في فلسطين، وهيمنة الأحزاب الدينية في العراق، بل وتزايد تهديد الأحزاب الأصولية لكل العالم العربي!
الدكتور خالد الدخيل مثلاً في مقاله عن "نهاية لحظة المحافظين الجدد" (الاتحاد، الأربعاء 8 مارس 2006)، يستعين بـفوكوياما وروبرت كابلان، لتعرية فشل المحافظين الجدد في تصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط!

الغربيون الذين يقولون إن الديمقراطية البرلمانية التعددية الدستورية لا تصلح للعرب والمسلمين، نعتبرهم ساسة ومفكرين وإعلاميين عنصريين. ولكن عندما يتوقف الديمقراطيون العرب "الحقيقيون"، متفرجين على صعود الإسلام السياسي في مصر وفلسطين والعراق وشمال أفريقيا ولبنان، ويعتزلون عن تجارب شعوبهم بحثاً عن الأصالة وأسطورة "بيدِي لا بيد عمرو"، بل وربما يقول البعض إن الديكتاتورية العربية أفضل من التدخل الخارجي، وأن خمسين سنة أخرى من الاستبداد أفضل وأرحم من يوم ديمقراطي غير نابع من أصالتنا وتراثنا وتقاليدنا وشيمنا وعروبتنا وإسلامنا وخصوصياتنا وآمالنا وآلامنا! وهكذا إلى ما لا نهاية من هذه المصطلحات والشعارات...
عندما يتخذ هؤلاء مثل هذه المواقف "الوطنية الأصيلة" نعتبر ذلك قمة العقلانية والنضج.
نعم، هناك أخطاء أميركية، أخطاء مدمرة، أخطاء سمّها ما شئت، ولكن متى سيتحمل العرب في مدنهم وبلدانهم ومجتمعاتهم مسؤولياتهم التاريخية؟ هناك مثقفون كبار في الولايات المتحدة، مثل فوكوياما وكوبلان وغيرهما ينتقدون السياسة الأميركية، وهناك من لا يرى في مواقف الحزب الجمهوري سوى الأخطاء الفادحة، وهناك يسار أميركي محلق في الهواء لم يرَ ذات يوم بأساً في جرائم كمبوديا ونظام بول بوت المرعبة، مثل ناعوم تشومسكي الذي لم يحرك فيه حتى سقوط حائط برلين شعرة واحدة... ولكن كيف ننظر إلى هذه الحملة الأميركية الديمقراطية نظرة عربية واقعية، ونحاول أن نستخلص منها ما ينفعنا... وبخاصة أننا لا نملك أي بديل؟! كيف نعطي الأولوية لقضايانا ومصالحنا، ونتجنب الوقوع ضحايا لصراع الكتاب والإعلاميين الأميركيين... ضد الإدارة الأميركية؟ هل الشماتة بالفشل الأميركي تحل مشاكلنا وتوفر لنا البدائل؟

لماذا انحصر دور المثقفين العرب في العناد والشماتة والتصفيق لما أسموه بالمقاومة العراقية، وفي المطالبة بالانسحاب الفوري لـ"قوى الاحتلال"، وهم يعرفون جيداً نتائج مغادرة هذه القوى للعراق ولمنطقة الخليج في هذه المرحلة الحرجة؟ أين ضمائر المثقفين والمثقفات العرب من نحو 250 مقبرة جماعية في العراق، ينظر إليها عرب الفكر والقلم والمقالات المطولة، في غمرة هجاء السياسة الأميركية، وكأنها قبور من عهد عاد وثمود!
نعم، للعرب والمسلمين خصوصيات، كما لليابانيين والهنود والبرازيليين والأميركان. ولكن هل نريد أن نبني عالماً خاصاً بنا، أم نكون جزءاً لا يتجزأ من عالم القرن الحادي والعشرين؟ متى ننتهي من الانتقائية الفكرية والدلال السياسي والتلاعب بالمصطلحات، والاختباء خلف جدران المبالغات؟
الكاتب الفلسطيني المعروف ماجد الكيلاني مثلاً، يوجه النقد إلى السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وحملة الرئيس بوش وكوندوليزا رايس "الديمقراطية" متسائلا: لماذا يدعم هؤلاء هذه المحاولة الديمقراطية رغم "أنهم على دراية تامة بالإشكاليات التي يمكن أن تتمخض عنها العمليات الانتخابية أو عملية نشر الديمقراطية في المنطقة العربية إلى حد أنهم يعلنون إصرارهم على التمسك بها، ولو بثمن مجيئها بنتائج غير متوقعة، وحتى معاكسة للرغبات الأميركية، باعتبار ذلك يعكس تداعيات "مرحلة انتقالية ضرورية"، بحسب تعبير رايس؟ وهذا سؤال جيد عميق، لو كنا من أهل هذه الدنيا وراغبين حقاً في اليقظة واللحاق ببقية أمم آسيا الناهضة. ولكن يا للفاجعة المؤسفة! انظر كيف يجيب الكاتب على هذا السؤال الملح: "تفسير ذلك يكمن في أن الإدارة الأميركية تحاول، عبر الإصرار على الانتخابات، توظيف هذه العملية في اتجاهات عدة، لعل أهمها يتمثل في:

استقطاب الجماهير العربية باعتبار أنها تحمل مطالبها بالإصلاح والتغيير والديمقراطية.

ابتزاز الأنظمة العربية، بالديمقراطية والانتخابات، حتى لو وصل الوضع حد اعتماد بدائل إسلامية.

تحسين صورتها في العالم العربي والإسلامي كمساند للإسلام مقارنة بالدول الأوروبية العلمانية التي ترسل إشارات متشددة تجاه الإسلام بين فترة وأخرى.

بعث رسالة للمسلمين مفادها بأنها ليست ضد الدين الإسلامي أو ضد تيار "الإسلام السياسي"، بقدر ما هي معادية للحركات المتطرفة الإرهابية.

السعي إلى إدخال الإسلام السياسي المعتدل (وضمنه حركة الإخوان المسلمين) في خندقها في مواجهة الحركات الإسلامية المتطرفة والإرهابية.

تقديم نموذج "حماس" لإظهار مساندتها الإسلام السني للتخفيف من دعوى دعمها للإسلام الشيعي في العراق.

عُد عزيزي القارئ لتأمل هذه المآخذ الفذة على سياسة الولايات المتحدة الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، وقف مطولاً بحق السماء عند البند الثاني، عندما يتهم كاتب مثقف في دولة عربية ذاقت- ولا تزال- الأمرين من التسلط والاستبداد، ليتهم الولايات المتحدة بأنها تهدف إلى "ابتزاز الأنظمة العربية بالديمقراطيات والانتخابات"!

تصور كل هذا التحليل الغريب لسياسة الولايات المتحدة في العالم العربي، واستحضر في ذهنك ما جرى في أميركا والعالم العربي والإسلامي منذ كارثة 11 سبتمبر 2001، وما أنفقته الولايات المتحدة من مليارات الدولارات في إسقاط نظام "طالبان" ومحاربة الإرهاب وإسقاط نظام صدام حسين وكل ضغوطات أميركا في لبنان ومصر ودول الخليج والمغرب والسودان، وما تنفقه الإدارة الأميركية على الإعلام الجديد وعلى تدريب الكوادر العربية النسائية للعملية الديمقراطية... كل هذا وغيره يندرج ضمن محاولات "الابتزاز" الأميركية للعالم العربي وأنظمته!
الكاتب الفاضل لا يسأل نفسه، بعيداً عما تريده أميركا أو لا تريده، هل نريد نحن الديمقراطية والتغيير أم لا؟ هل ندرك أن تغيير الأوضاع في منطقة كالشرق الأوسط لا يمكن أن تتم بدون مساندة قوى عظمى؟
يعترف المفكر محمد عابد الجابري في كتابه "المشروع النهضوي العربي"، أنه وفي كل مرة يتساءل فيها عن المستقبل العربي وعن إمكان النهضة، يجد نفسه "أمام كومة من الضباب تدفعه إلى النكوص على عقبيه". ويقول الكاتب علي الربيعو: اعتبر بعض مفكري العرب مثل نديم البيطار نكبة 1948، بمثابة "نعمة" لتنشيط الفعالية الثورية، فكأنه "ينشد الكارثة ليحصد الهزيمة".
ترى، كم من "النّعم" الأخرى، سيكتشفها بعض مثقفي العالم العربي في تعثر السياسة الأميركية، وفشل الحملة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط؟ على الأرجح، نِعم لا تحصى!