" صحيح أين محجبة وأثابر على أداء الفروض الدينية ، وأتردد إلى الجامع بين يوم وآخر ، لكني لا أقبل الفكر الأصولي التكفيري ، ولا أستسيغ فكرة العيش في ظل دولة دينية ، ثمة نماذج قائمة لهذه الدولة لا تعجبني " .

كلام سمعته من شابة لا يزيد عمرها عن عشرين عاماً ، شكلت مفاجأة لجميع الحاضرين ، ليس لقولها هذا الرأي فحسب ، وإنما لتوقد ذكائها أيضاً وسعة ثقافتها ودقة متابعتها للشأن السياسي ، تحديداً العلاقات السورية - اللبنانية . فتاة في مطلع شبابها ، ولا تتردد في طرح الأسئلة الاستفسارية على من تعتقد أنهم ملمّون بهذه الشؤون ويتابعونها بشكل أشمل . والمستغرب أنها ممسوسة بالسياسة حتى النخاع دون أن يكون في عائلتها أي شخص مسيس . لكنها الانترنيت التي اعتادت التجوال في أروقتها لمعرفة آخر المناقشات والمستجدات المختلفة ، دون أن يشغلها ذلك عن اهتماماتها الشبابية بأحدث الأغاني وأخبار النجوم الذين تهواهم . تمثل هذا في اللحظة التي كانت تتحدث مع أختها الأصغر الجالسة بجوارها إلى الطاولة عن وائل كفوري ، إذ بها تلتفت وتجادل صحفياً على الطرف المقابل حول تقييم رجال السياسة ، من خلال تحليل تصريحاتهم الأخيرة .

في مكان آخر من دمشق ، ثمة شاب آخر في الثلاثينات من عمره ، صاحب محل الكترونيات وأجهزة محمول ، يعلق على صدره من جهة إيقونة لغيفارا ، وعلى جهة القلب العلم السوري ، أما نغمات موبايله فكانت خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله ، وشعارات " سورية عرين الأسود والموت لإسرائيل و " " ليسمع كل طغاة العالم أنه عندما تصبح القضية قضية مقدسات لن يبقى مكان لشيء لا لقلب ولا لعقل ولا لحسابات ، لن يكون هناك مكان إلا للتضحيات الجسام والاستجابة لنداء الشهادة "

سيبدو أمر هذا الشاب أكثر غرابة وهو يخوض نقاشاً سياسياً ، لأنه لا يساوم على علمانيته ، مع إعجاب بحزب الله منقطع النظير ، ويبرر المد الإسلامي ولايجد فيه أي مشكلة ، طالما هو ثورة ومقاومة من اجل الكرامة الوطنية ، مع أنه ليس متديناً وابن لعائلة مسيحية !!

النموذجان يضعان أمامنا مجموعة تساؤلات يتم إغفالها لدى الحديث عن صعود المد الديني في بلادنا ، أهمها استبعاد البعد الأخلاقي للدين ، مالذي يجعل فتاة في هذه السن تتحجب وتقبل على الجامع ، لاسيما أن عائلتها غير متشددة والدليل أن أختها ليست محجبة ، كما أنها مغرمة بنجوم الغناء الشبابي ، ولاتملك مثل هذا الاندفاع حيال الرموز الدينية !! هذه الفتاة كما تبدو من خلال حديثها وتصرفاتها الواعية متمسكة بالحجاب كإطار يحدد شخصيتها ، ويساعدها على التوازن بين نقيضين ، إذا جاز وصفهما بهذا ، من جهة تهوى ما يستميل الشباب في مثل سنها دون انحلال ومن جهة أخرى تلتزم بالأخلاق الدينية دونما تعصب ، نوع من المصالحة بين ما نعتقد انه من المتناقضات ، يشكل الدين ضماناً آمناً لسلوكها الأخلاقي ، هي بأمس الحاجة إليها لحماية النفس من التشتت والضياع ، ويصح اعتبار الحجاب خير تجسيد له ، الحجاب كشكل صريح للتعبير عن هوية محافظة من غير تزمت .

هذا الإطار يتحول في نموذج الشاب العلماني ليأخذ شكلاً آخر في صورة رمز النقاء الثوري " غيفارا " أو " العلم الوطني " يحضران إلى جانب رموز المقاومة الإسلامية في محاولة لموازنة الاندفاع العلماني خلف تيار المقاومة ذي الطابع الديني ، التيار الوحيد الذي قدم انتصارات مشرفة في العقود الأخيرة ، سواء كانت تجربة حزب الله في تحريره للجنوب ، أو تجربة حركة حماس التي وصلت إلى السلطة عبر الانتخابات دون أن ترمي السلاح ، في مواجهة طويلة وشرسة مع الإسرائيليين والأمريكيين . ليكون التوافق على المقاومة أعلى من الاختلاف العقائدي .

إذا كان هذا النموذجان معبرين فعلاً عن ظاهرة تتسع وتكبر ، يبدو من المبالغة إظهار التخوف من انتشار مظاهر التدين في المجتمع السوري ، وإذا قُرئ من زاوية غير زاوية السياسة ومخاوفها ، فقد نجد فيه دليلاً على قوة مجتمع يريد حماية نفسه بالارتداد إلى الدين كحامل أساسي للأخلاق ، في مواجهة أشكال الفساد الداخلي والخارجي .

الفساد الخارجي ويتثل في شكلين ، الأول : الاحتلال ومايحمله من ممارسات مشينة تنتهك خصوصية مجتمعات تعتز بدينها وقيمها وتقاليدها ، ليكون الانتصار للدين رد فعل طبيعي على المس بالمقدسات ، مثلما الثأر خيار وحيد لمجتمع أهينت رجولته في سجن أبوغريب على يد مجندات أمريكيات ، واستباحة المرتزقة لأعراض النساء المعتقلات ، ومن ثم استخدام الإعلام الغربي والأمريكي لصور الانتهاكات في معارك تخصهم دون أي إحساس بالمسؤولية تجاه حساسية الشعوب الشرقية من إشاعة تلك الصور التي يعادل نشرها الموت ، بل ويفوقه أحياناً . الشكل الثاني للفساد الخارجي ، مايتدفق من وسائل الإعلام العربية والغربية من مواد وبرامج تكرس ثقافة الاستهلاك ، وتنتهك الجسد بابتذاله ، وتميع مفاهيم الحرية والديمقراطية ، وتتلاعب بحاجات الشعوب المقهورة ـ لتزجها في لجنة التجاذب أو الصراع بين تطرفين الانحلال الأخلاقي والتشدد الديني على حساب الاعتدال .

أما الفساد الداخلي وهو الأهم ، لايمكن تجاهل أن غياب سلطة القانون وغياب المؤسسات القادرة على حماية حقوق المواطنة والعيش الكريم يعتبران العالم الأكبر للعودة إلى كنف المؤسسة الدينية ليس للاحتماء بها وحسب بل لفرض قوانينها الأخلاقية في مواجهة استشراء الفساد ، ولنا مثال في فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية ، ليس تعبيراً عن اختيار المقاومة بقدر ماهي فعل يتجاوز رد الفعل على محاربة فساد يعصف بالسلطة الفلسطينية . ولايختلف الأمر كثيراً في إيران لدى انتخاب محمود أحمدي نجاد المحافظ مثل الثوري الطهراني ، إذ ترتدي الثورة الأخلاقية في مواجهة الفساد لباس الدين .

وقد ينبغي على المتخوفين من شيوع مظاهر التدين في مجتمعنا ، قبل المبالغة في التحذير من هذه المظاهر واستعدائها ، العمل على رفع الخوف عن المجتمع ،ومكافحة الفساد وتعزيز سلطة القانون ، وإعادة الاعتبار للمؤسسات الحكومية والأهلية ، وإنعاش الحياة السياسية بقانون أحزاب عصري يمنح فرصة للمجتمع كي يعيد تأهيل ذاته فكرياً وثقافياً وسياسياً ، كذلك فتح الباب كاملاً أمام الصحافة لتمارس دورها الحقيقي كسلطة رابعة ، لادكاكين تسال وإعلانات .. الخ من مقومات لابد منها ليكون الإصلاح حقيقياً ، بما يضمن تأسيس دولة حديثة تكفل حماية أبنائها تحت السقف الوطني ، إذا لايمكن منع الأفراد والجماعات من البحث عن وسائلهم الخاصة لحماية أنفسهم ، في حال لم تتمكن الدولة من حمايتهم . مثلما لايمكن منع الأخلاق من التمظهر دينياً . وريثما تبتدع هذه الأجيال الشابة التواقة للحياة والعيش الكريم ، مفاهيم أكثر عقلانية وصلابة لاتتوارى وراء الأديان وتشتبه بها ، علينا أن نقدم لهم الكثير من الأمثلة البريئة من الفساد والتسيب . ليدركوا أن الأخلاق حاجة لا يوفرها الدين فقط ، بل وأن المجتمعات الأخرى سواء المتدينة أو غير المتدينة تنشد الأخلاق لأنها من ضرورات الاجتماع الإنساني .