من اجل أن يوحّد يوغوسلافيا، أقدم جوزيب بروز تيتو على الكثير من الفظاعات. لكنه في النهاية أقام دولة من كبرى دول أوروبا الشرقية. واكتشف مبكراً أن ستالين يريد ضم يوغوسلافيا إلى ثكنته فعمل على إخراجها من الصراع بين موسكو وبكين. ثم أخرجها من الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن. ثم أقام لها مكانة أولى بين دول عدم الانحياز، واستطاع أن يجد لدولة مسيحية ملحدة، مكانا في بحر من المسلمين والآسيويين والبوذيين.

ثم خرج من الحزب الشيوعي إلى السلطة في بلغراد رجل يدعى سلوبودان ميلوشيفتش. فمزق يوغوسلافيا. ومزّق من جديد بلاد البلقان. وأشعل من بلغراد الشرارة الأولى في صراع الحضارات. وأحيا في أوروبا الغرائز الميتة. وارتكب المجازر. وأعلى شأن الجريمة والمافيا. وهدم الاقتصاد. وصار كل مليار دينار يوغوسلافي في قيمة ثلاثين سنتا، أو أقل. وأشعل النار في ثوب أوروبا الشرقية. ووصلت النار إلى مقدونيا وبلاد اليونان.

وبعدما فكك يوغوسلافيا انصرف إلى الداخل الصربي يبدد حريته واقتصاده ومستقبله. ولم يكن وحيداً. فالحالة الفاشية الهمجية تجتذب الجهلاء. والفساد يعزز جمهورية القتلة والمستفيدين من مال الجريمة. وتحولت بلغراد نفسها إلى ملعب لرجال المافيا والأفظاظ والطغاة الصغار المحيطين بالحاكم وزوجته المسكونة بشيطان السلطة وأرواح الليدي ماكبث.

عندما اعتقل سلوبودان ميلوشيفتش كانت بلاد جميلة قد أصبحت مقبرة جماعية وارض الاغتصاب. وذهبت كل جمهورية من الجمهوريات الست في يوغوسلافيا السابقة في طريقها. والأسوأ حالاً بين الجميع هي صربيا. في حين أن جمهورية سلوفينيا مثلاً، تعرف ازدهاراً شديداً. والنكتة الشائعة في لوبليانا أن جميع السجناء يعرفون بعضهم البعض بسبب قلة عددهم.

لقد دمّر الهمجي واحدة من أهم تجارب التعايش والوحدة في العالم. وقبل أن يصل إلى الحكم بوقت حضرته مرة في ندوة أقامتها البي. بي. سي لقادة الجمهوريات اليوغوسلافية. وخامرني شعور غريب بأن هذا الرجل سيحرق البلد. لقد لاحظت انه لا يمكن أن يبتسم. وأنا أخاف المخلوقات التي لا تعرف الابتسام. هؤلاء رجال مهووسون بالوصول إلى السلطة ولا وقت لأي مشاعر أخرى. لذلك تتجمد مشاعرهم وأحناكهم. وعندما يطل أحدهم على بلد ما، تصيبني خشية فورية على ذلك البلد.

كان سلوبودان ميلوشيفتش يعيش في عالم لا علاقة له بهذا العالم. لا علاقة له بالحقيقة. لقد عاش في عالم بناه لنفسه وهدمه بنفسه. وكان مستعداً لأن يدافع عنه حتى اللحظة الأخيرة. فقد كان يأمل أن يحول محاكمته إلى مطالعة في التاريخ كما يراه. وكان يأمل أن يحول عشرات الآلاف الذين تسبب في قتلهم إلى مجرد حصى أو نقاط حبر سوداء في رسالته إلى الأمة الصربية. لقد كانت كل ثقافته مأخوذة من شعراء الزجل وأغاني الانتقام. ولم يتعلم أن صناعة التاريخ هي أن تتخطاه.