جاءت قضية الرسوم الكاريكاتيرية “الاسلاموفوبية” الأخيرة لتلقي ضوءا إضافيا على قران مصلحة أخذت خيوطه الأساسية تنسج أوروبياً في العشرية الأخيرة. فلم يعد من المبالغة في شيء أن نتحدث عن تحالف غير مكتوب بين تيارات اليمين المتطرف أو أقصى اليمين وبين شبكات الضغط والنفوذ الأوروبية المرتبطة ب”إسرائيل”. فإذا كانت صحيفة (يولاندز بوستن) التي حملت وزر الرسوم “الاسلاموفوبية” لا تنكر خلفيتها المتجذرة في أقصى اليمين الدنماركي فإن جزءا معتبرا من الصحف الأوروبية التي بادرت إلى إعادة نشر الرسوم ترتبط ارتباطا مباشرا وأحيانا شبه مباشر بالشبكات المتصهينة.

وتتالت الأصوات الأوروبية ذات الارتباطات “الإسرائيلية” الصريحة أو المضمرة على أبرز القنوات التلفزيونية الغربية وفي كبريات الصحف لتضطلع بمهمة الدفاع المستميت عن إعادة نشر رسوم “يولاندز بوستن” ليس فقط باسم حرية التعبير والوفاء الفولتيري للأنوار، ولكن أيضا باسم مقاومة ما ظلتْ هذه الأصوات تطلق عليه، بعبارة بالغة الشوفينية ومن دون أدنى تحفظ لفظي، الكليانية أو التوتاليتارية الاسلامية الخضراء.

تلك الأفواه والأقلام أو بعضها هي من أرادت أن تكرس المخرج “تيو فان جوخ” شهيدا لحرية التعبير غداة مصرعه رغم انتمائه المعلن ليس إلى أقصى اليمين الهولندي فقط بل إلى تيار النازيين الجدد كأحد قيادييه. فصبه جام غضبه على مسلمي هولندا ومقتله بعد ظهور فيلمه “الاسلاموفوبي” على يد متطرف من أصل مسلم (بحسب الرواية الرسمية الهولندية التي شككتْ فيها لأسباب يضيق هنا المقام عن سردها الصحيفة الانجليزية ثابسيرفير) جعلا هذه الأصوات تنْسى أو تتناسى نازية المخرج الهولندي وعداءه لليهود وللسامية لصالح “عظاميته”، أي تفضل التركيز على أن فان جوخ المخرج هو حفيد فان جوخ الرسام

ورغم اختلاف الجد والحفيد فالتذكير بعلاقة النسب هذه كفيل بجر شرائح شعبية عريضة للتعاطف مع تيو وتناسي نازيته التي تنضح بها كل أعماله. موجة التباكي العاتية باسم حرية التعبير على مقتل “تيو فان جوخ” ظلتْ تزداد هيجانا وتخض الطبيعة الثلجية للشمال الأوروبي من دون أن تنتظر أن يجف حبر نفس الشعار التعبير وحريته في جنوب أوروبا الساخن حيث كانت نفس الأصوات بنفس الأجندة المنطوقة أو المستشعرة ترفعه باهتا لتصرخ بملء أفواهها دفاعا عن كتاب الصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي الذي حمل العنوان الدال “الحنق والكبرياء”. كتاب فالاتشي صدر بأسابيع بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وانتشر كحمم الهشيم في كل المكتبات الأوروبية والأمريكية حيث بيعتْ منه عشرات الملايين في بضعة أيام. وللتذكير ففيه صَبّتْ الصحافية التي كانت عُرفتْ قبل انقلابها الفاشستي على نفسها بكتابها عن الحرب الأهلية اللبنانية الذي عنونته “إن شاء الله” صبتْ ألسنة نارها السادية على المسلمين جميعا دينا وشعوبا ومجتمعات وثقافات دون تمييز ووصفتهم فيه بأبشع وأفظع النعوت من دون أن تتوانى عن استخدام العبارات الجنسية الأكثر تهتّكا وسوقية وتقصف بها عشوائيا كل من يسكن في الضفة الأخرى للمتوسط، بمن فيهم العرب المسيحيون، حيث كانت “الفكرة” المحورية ل”الحنق والكبرياء” تتلخص في أن تلك المنطقة من الأرض لا تنجب إلا البلداء والمعتوهين ممن يفضلون أن “يصلّوا” ولا داعي هنا لترجمة الكلمات الفاحشة التي استخدمت للتعبير عن الصلاة “خمس مرات لليوم بدل المساهمة في تقدم الإنسانية”.

هذه الظاهرة التحالفية وإن اختلفتْ في بعض حيثياتها الأوروبية عن التحالف المماثل الذي تعرفه في أعلى دوائر قرارها الولايات المتحدة والذي يترجمه بتلك الدوائر تنظيرا وممارسة تيارُ المحافظين الجدد فإنها في المستوى الأعمق تمثل وجهه الأوروبي. وهي تصدر عن مفارقتين مؤسستين لهما أكثر من دلالة:

أولاهما، أن أغلب الذين يشكلون حاليا الامتدادات الأوروبية لليمين “الإسرائيلي” لا سيما في خطوط هجومه الأمامية هم ممن تكونوا وترعرعوا في أحضان اليسار الأوروبي وأحيانا ترجع خلفياتهم إلى أقصى اليسار. والعودة إلى المسارات الشخصية لكثير من هؤلاء كفيلة بتوضيح هذا المنحى.

هذه الملاحظة هي تحديداً ما أثار زوبعة في أوروبا انطلقت من فرنسا بسبب كتيب صغير صدر خريف سنة 2002 وحمل عنوان “استرعاء للانتظام، تحقيق عن الرجعيين الجدد” وحمل أحد فصوله عنوان “عندما ينعطف يهود إلى اليمين”. ولم توجه إلى صاحبه “دانييل لندنبيرج” التهمة التقليدية بالعداء للسامية ليس لأنه من أصل يهودي فقط، ولكن أيضا لأنه لم يكن أول من أثار هذا الموضوع داخل الأوساط اليهودية الغربية نفسها في السنوات الأخيرة. بل إن عنوان الفصل المعني كان بالانجليزية في كتاب مؤلف بالفرنسية وذلك للإشارة كما أكد لندنبيرج نفسه إلى عنوان مماثل تردد لدى كتّاب يساريين أمريكيين يهود كنورمان فنكلستاين وبيتر نوفيك وجابرييل شوفينلند يطلقه هؤلاء على “المثقفين النيويوركيين” اليهود ممن انتقلوا من اليسار فجأة إلى اليمين منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم.

أما المفارقة الثانية لهذه الظاهرة فهي أن أدبيات العداء لليهودية وللسامية بالمعنى الأوروبي للكلمة المتجذرة في مختلف تيارات أقصى اليمين الأوروبي لم تختف إلا بعض تمظهراتها، بل إن أسسها البعيدة التي تعود إلى القرن قبل الماضي تطفو من جديد على السطح بما فيها أكثرها ظلامية كالمصادرات الغوبينية والموراسية نسبة إلى (ارتيرد جوبينو) وإلى (شارل موراس) حول الصفاء العنصري والهرمية العرقية، وخطر الأجناس اللاآرية على الأمم الأوروبية ونظرية التآمر وغيرها من أدبيات الإرث العنصري للقرن التاسع عشر. عوامل عديدة ساهمت في عودة تلك الأدبيات وإن بصياغات جديدة أقل إفصاحا عن نفسها، وهي نفسها العوامل التي ساهمت في تقوية تيارات أقصى اليمين التي استطاعت في السنوات الأخيرة جلب شرائح ليس من اليمين التقليدي فقط، ولكن أيضا مما يسمى اليسار المسيحي واليسار بشكل عام.

صحيح أن أغلب هذه الأدبيات العنصرية صار موجها في المستوى الأول على الأقل إلى الأقليات العربية الاسلامية وصارت تُلْقى إليهم نفس التهم التي كانت توجه تقليديا إلى الأقليات اليهودية مثل الخيانة والتآمر السري ضد أهل البلد “الحقيقيين” وتشكيل جمعيات سرية دولية هدفها التدمير ومثل البحث عن المال السهل وتشكيل خطر على التجانس الثقافي والعرقي للأمم الأوروبية. ولكن العداء لليهود لا يزال حاضرا بشكل عميق تماما كما هي أدبياته ولا يتخفى إلا لكي تأتي مناسبات استثنائية تكشف تجذره البالغ كوصول أقصى اليمين إلى الدور الثاني من الرئاسيات الفرنسية لسنة 2002 ولكي يظهر أنه من العسير أن يقبل أقصى اليمين الأوروبي بتحالف مع أطراف يهودية أو مرتبطة ب”إسرائيل” إلا بشكل تكتيكي وذلك أيا كان تموقعها اليميني أو اليساري. ولكن تيارات أقصى اليمين تدرك أن من مصلحتها مرحليا أن تتحالف مع “اليمين الصهيوني الأوروبي” على أساس أن “اليمينيْن” يواجهان ما يريانه عدواً عربياً إسلامياً مشتركاً ولا يتورعان عن تسميته بمختلف الصيغ العنصرية وبأكثرها تداولا: “التوتاليتارية الخضراء”. ومن ثم فليس غريباً أن يعتبرا أن تحالفهما الضمني غالبا والصريح أحيانا ينبغي أن يعمل على تأجيج كل ما من شأنه أن يعمق الفجوة بين أوروبا والعالم العربي. وهو ما يعني بالمقابل أن من مصلحة العالم العربي والإسلامي تفادي مثل هذا الفخ.