د. عبدالستار قاسم (الراصد للتوثيق الاعلامي)

جثم على صدور الفلسطينيين خلال السنوات السابقة ومنذ بداية عهد السلطة الفلسطينية ثلاثة أنواع من الاحتلال: الاحتلال الصهيوني، الفساد الداخلي والمال الغربي. عانى الشعب الفلسطيني بأشكال متنوعة ومتعددة عكست تحالف هذا الثالوث المرعب الهادف إلى تذويب القضية الفلسطينية وتحويل الشعب إلى مجرد أفراد متشتتين يبحث كل منهم عن ملجأ يأوي إليه. أعمل كل نوع خنجرا في جسد الشعب في سباق لتحويله إلى جثة هامدة، لكن من الواضح أن النتائج لم تكن وفق التمنيات. يقف الشعب صامدا على أقدامه وقد قرر أن تبقى القضية الفلسطينية ضمن بيئتها الصحيحة والمنطق التاريخي الذي يتجاوز الاستسلام.

بعد الانتخابات التشريعية، أن الاعتماد على المال الغربي لتسيير الحياة اليومية ليس بالعمل الحكيم. الأمريكيون والأوروبيون يهددوننا بلقمة خبزنا، ويريدون معاقبة الشعب الفلسطيني على اختياره، كأنه كان من المطلوب أن يتأدب الفلسطينيون، وأن ينحنوا مقبلين للأيدي التي تمدهم بالطعام. بهذا لا يخالف أهل الغرب منطق التاريخ على الرغم من أنهم يخالفون المنطق الإنساني. في المنطق الإنساني، يتم تقديم المساعدات لأسباب إنسانية فقط وخالية من أية أهداف اجتماعية أو سياسية، الخ؛ أما وفق المنطق التاريخي، فإن المساعدات تخدم أغراض الذي يقدم المساعدة، والذي يضع عادة شروطه أو مطالبه مسبقا، وهكذا تبقى اليد ممدودة ما دامت الاستجابة للشروط قائمة.

لم يقدم الغرب لنا العون المالي والمادي من أجل عيوننا السوداء، ولا لأنه يريد أن يتبارك بنا، وإنما كمكافأة على مواقفنا تجاه إسرائيل. مع توقيع اتفاق أوسلو وقدوم السلطة الفلسطينية، تحولت مسؤولية دعم الفلسطينيين ماليا إلى أهل الغرب وذلك ليكون المال صمام أمان يضمن انصياع الفلسطينيين للإرادة الغربية-الإسرائيلية. كان من المهم لأهل الغرب أن يعرف الفلسطينيون أن المال الغربي هو وحده الذي يمكنهم من شراء الحليب لأطفالهم، وأن التمرد لن يأتي عليهم إلا بالجوع وضنك العيش. وقد ظهر من بين صفوفنا طوابير من المبشرين بأهمية المال الغربي وضرورة التوافق مع مطالب التخلي عن حقوقنا، ومارس هؤلاء دورا فاعلا في الآونة الأخيرة في إحباط الناس وجرهم إلى الندم على سلوكهم الانتخابي.

حرص أهل الغرب على ضرورة زيادة أعداد الناس الذين يتلقون رواتب وفوائد من دعمهم المالي، وذلك للسيطرة على قرار أكبر عدد من العائلات الفلسطينية. فتحوا المجال أمام السلطة الفلسطينية لتوظيف أعداد كبيرة من الناس الذين لا عمل لهم. عشرات الآلاف تم تعيينهم في الأجهزة الأمنية، وتضخم الطاقم الوظيفي في مختلف المؤسسات بطريقة ساهمت إلى حد كبير بصناعة الفساد وتنمية ثقافة الكسل والتواكل. لم يكن لدى الغرب، وهو يعرف فساد مثل هذه السياسة، مانع من تخصيص المال اللازم ما دامت إرادة الموظف ستتلاشى تحت وطأة الراتب. تحدث الأمريكيون والأوروبيون عن الإصلاح، لكنهم كانوا دائما كاذبين لأنهم يعرفون أن الفساد هو الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى إنجاح أوسلو. كانوا على يقين بأن امرأة فاضلة، أو رجلا فاضلا لا يمكن أن يصافح الإسرائيليين أو أن يساوم على حقوق الشعب، ولا مفر من الإفساد والبحث عن فاسدين.

لم تخيب القيادة الفلسطينية أمل الغرب في زيادة الأعباء النفسية والمالية على الشعب الفلسطيني. أوغلت القيادة الفلسطينية السابقة بالفساد المالي والإداري، وفتحت المجال أمام من جفت عندهم الأخلاق ليعيثوا في الشارع الفلسطيني خرابا وابتزازا واعتداء على الممتلكات. كان هذا الأمر مريحا للقيادة من ناحية أنها تشتري الولاء السياسي، وكانت تظن أن الذين يرهبون الناس يستطيعون فرض الولاء حتى عند صندوق الانتخابات. انعكس الوضع بسلبية شديدة على الشارع إلى درجة أن الكراهية أصبحت عنوانا للسلوك الاجتماعي، وأن غياب الثقة المتبادلة بين الناس قد أصبح واقعا مريرا. لقد أُثقل الناس بهموم وآلام جعلتهم في النهاية ينتفضون غير آبهين بما يمكن أن تتمخض عنه الأمور من نتائج على رواتب الموظفين.

ليس من السهل التخلص من هذا التراكم الاحتلالي، لكن البدء بالمسيرة يبشر بالتخلص منه تدريجيا. ستضع الدول الغربية الكثير من العراقيل من أجل معاقبة الشعب الفلسطيني ماليا، ومن المرجح أنها ستنجح مؤقتا وستخسر لاحقا. تتحدث الآن حماس عن أهمية عدم معاقبة الشعب الفلسطيني بسبب اختياره الديمقراطي وعن ضرورة استمرار تدفق الأموال، لكنها تدرك تماما أن الملاطفة الكلامية الآن لن تصمد أمام المصالح الغربية والإسرائيلية، وأن عليها أن تبحث عن بدائل. لن تجد حماس صعوبة في توفير الأموال لأن هناك مصادر عربية وإسلامية متعددة لديها الاستعداد لتقديم المعونات، ومنها من هو تواق لأخذ دور الدول الغربية وبدون فرض شروط على الشعب الفلسطيني. حماس تدرك أيضا كما يدرك الشعب الفلسطيني بأنه من المهم التخلص من هذا الاحتلال حتى لا تبقى لقمة الخبز بيد الأعداء أو من يقفون مع الأعداء. ولهذا ستركز كثيرا على الاستثمار لكي ترفع من الإنتاج الفلسطيني.

ستكون مهمة حماس في التخلص من الفساد أكثر صعوبة من التخلص من الاحتلال المالي الغربي ذلك لأن هناك قوى داخلية كبيرة مستفيدة منه، وهي مراكز قوى تملك أسلحة ومسلحين. ليس من السهل أن تلقي قوى الفساد بمصالحها وسلطانها وكل الامتيازات التي حصلت عليها في حضن حماس، ومن المتوقع أن تصنع الكثير من المشاكل لعرقلة القيادة الجديدة، وللإبقاء على ارتباطاتها مع إسرائيل والدول الغربية. فضلا عن أن هذه القوى تخشى يوم الحساب العاجل.

إذا استطاعت حماس التخلص من هاتين الكارثتين فإنها تكون قد خطت خطوات واسعة نحو تمكين الشعب الفلسطيني وتحصينه، وتكون بذلك أكثر قدرة على مواجهة الاحتلال الصهيوني. المهمة ليست بسيطة والطريق وعرة جدا، لكن الوصول هو قضاء الذي يحاول.