مما لا شك فيه أن المعارضة السوريّة، التي نمت " لقيطة " في بلد يفتقر بالمطلق لأبسط متطلّبات الكمال السياسي، لأكثر أنواع التقاليد السياسيّة بدائيّة؛ بلد باختصار لا يعرف السياسة بمعناها العلمي أو الأخلاقي، تعاني من أزمة خانقة تتجلّى أساساً في انفصالها الفعلي عن الشارع، الذي يبدو غير مبال بالمطلق، في ظل أزمة معيشيّة ما تزال تطارده منذ عقود، بالموالاة أو بالمعارضة.

إن ما حصل اليوم، التاسع من آذار، من صدام بين المعارضة والطلبة الموالين، الذين يحتجون بعنف لا مبرّر له على احتجاج المعارضة على قانون الطوارئ، يختصر دون تعب الكارثة المعرفيّة التي يعيشها الشعب السوري.

دون إطناب، الطلبة معروفون عالميّاً بأنهم الطليعة التحرريّة بين كلّ الشعوب: كيف يمكن أن نفسّر ضمن ما يمكن أن نسميّه سيكولوجيا السياسة، هذا السلوك الغريب؟ مع ذلك، يمكن القول إن الوطن المريض لا يمكن أن تخرج عنه ظواهر صحيّة. سلوك الطلبة أحد أشكال المرضيّة السياسيّة؛ لكن المعارضة، من منظور لا معارض ولا موال، لا تنقصها الأمراض المستعصية للموالاة: إنها ببساطة تجلّ غير صحي لمجتمع مريض جذريّاً.

قبل الدخول في تفاصيل النقد المعرفي للمعارضة السوريّة، أريد الإشارة إلى أننا لم ندع يوماً انتسابنا للمعارضة، بالمعنى السياسي للكلمة؛ لكننا معارضون بالمعنى الثقافي الفكري لأنماط السلوك السائدة إن في الدولة أو بين معارضيها. كان خطأنا الفعلي هو المجاملة إلى درجة القبول بالدخول في نمط سياسي نحن بالمطلق ضدّه، حتى وإن كان يتلطّى تحت العنوان البرّاق " معارضة "؛ ومن ثم دخولنا غير راغبين هذا المعترك الذين نمتلك من المآخذ عليه ما لا يقل عن مآخذنا على الموالاة.

إن دليلنا الأوضح على أن مثالب الموالاة والمعارضة غير متفارقة جذريّاً، هو قبول طيف هام جدّاً من هذه المعارضة، من الذين يمتلكون خنادق خلفيّة شعبيّة غير خلّبيّة، أي الأخوان المسلمين، بشخص يجسّد بذاته كلّ أمراض الموالاة، بل هو أحد الواضعين لأيديولوجيا الإفساد المبرمج، أي عبد الحليم خدّام.

الأزمة المستعصيّة على الحل في البنية الفكريّة للشارع السوري، نخباً وغير نخب، في الداخل أو الخارج، هي توقفه عند اللونين الأبيض والأسود، مع أن الألوان الأخرى هي الأكثر انتشاراً من السابقين، بما لا يقارن. هذا قد يكون أحد الأسباب التي صنفّت مقالاتنا التي انتقدت الفساد والأصوليّة على أنها شكل معارضة سياسيّة: والأمر غير صحيح. نقد الفساد يصنّف معرفيّاً ضمن نقد منظومات القيم الأخلاقيّة السائدة. يمكن أن يكون للفساد وجه سياسي؛ لكن السياسة بمعناها العلمي شيء والفساد شيء آخر. السياسة أوسع من أن تقنّن بالفساد، كما هو شائع في الدول الناطقة بالعربيّة. الفساد تشوه أخلاقي قبل أن يكون سياسيّاً.

هذا يجرّنا إلى السؤال الأخلاقي أيضاً: هل أن المعارضة تختلف في الجوهر عن الموالاة أخلاقيّاً؟ من منظور حيادي، كما قلنا، المعارضة معارضة لأنها ببساطة ليست سلطة. ومن تصريحات كثير من رموز هذه المعارضة، نشتم رائحة شره سلطوي ما له حدود. إنهم يتحدّثون عن خطط يرسمونها هم لإخراج البلد من أزمته المستعصية. لكن أحداً لم يسأل عن رأي الشعب بهذه الخطط. أحدهم، على سبيل المثال، كان يقدّم على أنه " رئيس سوريّا المقبل ": فهل سئل الشعب يوماً إذا كان يقبل بهؤلاء حكّاماً له، أم أن رأي الشعب هو آخر ما يمكن التفكير به؟ آخر طرح في لقاء إعلامي ما يجب القيام به من أجل إخراج سوريّا من أزمتها، فمن استشار في مخططه الشهير " إعلاميّاً " ذاك، وما مدى تفاعل الناس مع طرحه، خاصّة وأن الشعب السوري صار مضرب المثل، بسبب أوضاعه الاقتصاديّة السيئة، بالسكونيّة الاجتماعيّة – السياسيّة؟

المعارضة في سوريّا، بشكل عام، تحمل أسوأ أمراض سوريّا ما بعد البعث، أي الطائفيّة. الأخوان المسلمون، المعارضة السوريّة الأكثر شعبيّة، جماعة طائفيّة بامتياز. إعلان دمشق الشهير، لا يخلو من النفس الطائفي. أحد رموز المعارضة من الشيوعيين السابقين كان يتحدّث عن " اختراق [ السلطة ] للجناح العلوي في المكتب السياسي ". بل ثمة من يتحدّث من جماعة حقوق الإنسان في سوريّا عن أنه مسلم [ سنّي ] مدافع عن حقوق الإنسان. وسوف نظهر في مقالة لنا مترجمة التناقض البنيوي الصارخ بين الإسلام التقليدي وحقوق الإنسان، وفق شرعة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة.

من المشاكل الكبيرة التي تعاني منها المعارضة تضخم الأنا على نحو مرضي عند كثير من رموزها. وقد مررت شخصيّاً بتجربة مريرة حين حاولت طرح مشروع-فكرة ميثاق شرف مثقفين سوريين، ونوع ردّات الفعل ولغتها التي تواجهت بها من كثير من رموز هذه المعارضة. بل يمكن القول دون تردّد، من تجربة شخصيّة، أن الانشقاقات المتواترة، العلامة الفارقة للمعارضة السوريّة، ناجمة أصلاً عن اصطدام الأنوات المتضخمة، الواحدة بالأخرى. ولا حاجة بنا لذكر تاريخ هذه الانشقاقات لأنه يحتاج إلى موسوعة بلا نهاية.

لأن المعارضة السوريّة وليدة مجتمع بطريركي، فهي مريضة بالذكوريّة الإقصائيّة، التي تستثني النساء من أي فعل مجتمعي. بل أستطيع القول دون اتهام، إن أحد أهم رموز حقوق الإنسان في سوريّا، في حديث له أمامي مع أحد مناوئيه، قال : " أكون إمرأة إن لم أفعل كذا وكذا "!! بل إن معارضة الخارج، التي يفترض أنها تأثرت بجو الغرب غير العدائي للمرأة، تفتقر إلى أي تمثيل نسائي، بالمعنى الفعلي للكلمة.

أسوأ أمراض هذه المعارضة: التخوين. فهذا مرتبط بالنظام [ إذا أحذنا بكلام أحد المعارضين المسجونين حاليّاً، لا يوجد معارضون في سوريّا خارج دائرة مخابرات النظام – لماذا إذن يطالب معارضنا بتغييره؟ ] وذاك عميل للغرب وتلك تتعاطى العهر بأنواعه وهؤلاء فرع أمني متنقّل... إلخ! إن القوي والشفّاف والواثق من نفسه لا يخشى أحداً. الراسخ في الفكرة لا يهمه إن حاولت كل قوى العالم تقويض فكرته: كثيرون في العالم حاربوا من أجل أفكارهم في الداخل والخارج، وأثبتوا للبشريّة أن الفكرة الصحيحة أقوى من كلّ المؤامرات. مع ذلك يبقى السؤال: كيف يكتشف أحدهم، إن كان غير ذي علاقة بالأفرع الأمنيّة، أن غيره عميل للأمن؟ التخوين، في المعارضة السوريّة، هو أحد أشكال تعهير الغير من أجل تسويق الأنا على أنها الأطهر، وبالتالي الأكثر جدارة بثقة الناس، وبالتالي الأكثر قدرة على الحكم...

لا حلّ على الإطلاق، مرحليّاً على الأقل، لأمراض المعارضة السوريّة المستعصية. المعارضة بنت المجتمع. والمجتمع السوري الذي يزيد مرضاً على مرض يوميّاً، لا يمكنه أبداً أن ينجب أبناء أسوياء.

كنّا نتباهى سابقاً بأن الشعب السوري لا يعرف الرشوة، بل كنت شخصيّاً أغمز من قناة المصريين، حين كنت أعيش في القاهرة، بسبب تفشي الرشوة في دوائرهم الحكوميّة وغير الحكوميّة: ماذا يمكن أن نقول للمصريين اليوم؟؟ أسوأ ما في شعب أن يصبح سلعاً: وإذا كنّا حاربنا في كتابنا " حوارات "، عام 1991، تشييء النساء في ماضي سوريّا وحاضرها، ماذا يمكن أن نقول اليوم في ظل ما يعرفه الجميع من معطيات؟