الإدارة الأمريكية كانت واضحة منذ بداية الأزمة في لبنان، حيث كان استهداف الوجود السوري مرسوم على إستراتيجية لا تتعلق بنفوذ دمشق فقط بل بطبيعة الدور السياسي لها. فمنذ احتلال العراق كان من الضروري بالنسبة للإدارة الأمريكية تصفية التشكيل السياسي للمنطقة وإيجاد توازن سياسي جديد ينسجم مع "عراق ما بعد الحرب". ومن هنا ظهر موضوع "الشرق الأوسط الكبير" كمشروع قادر على الانسجام مع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة.

وبالطبع فإن سورية أصبحت جزءا من الأزمة الأمريكية، فالولايات المتحدة تسعى عمليا لتبديل الموقع الجيوستراتيجي لمنطقة الشرق الوسط، بحيث يتم تحويل الأزمات الناجمة عن طبيعة التوازن القائم على وجود إسرائيل مقابل مجموعة من الدول العربية، إلى أزمات مبنية على الأبعاد الداخلية لكل دولة. وهذا لا يعني أن كل دولة في الشرق الأوسط لا تملك مشاكلها الخاصة قبل احتلال العراق، ولكن بنية الدولة العربية الحديثة تراكبت مع المشكلة الإقليمية لوجود إسرائيل، إضافة إلى أن وجود إسرائيل بذاته فرض حالة من التشكيل السياسي والجيوبولتيك منذ منتصف القرن الماضي.

فالدور السوري لا يعني فقط حالة المواجهة، بل أيضا التكوين التاريخي للقوى السياسية السورية، وطبيعة النظام السياسي السوري منذ مرحلة الاستقلال وحتى اليوم. وربما علينا ان نتذكر أن أزمة السياسة السورية كانت في "إسرائيل" بالدرجة الأولى، فالانقلابات العسكرية والتحالفات والاستقطاب الدولي الذي شهدته سورية طوال نصف قرن كان عنوانه الصراع مع إسرائيل.

المشهد اليوم يبدو مختلفا بالنسبة لدمشق ولعدد من العواصم العربية، وربما علينا عدم استعجال النتائج بشأن الضغوط الأمريكية، فاستهداف النظام السياسي هو شأن حقيقي، ولكنه أيضا يطال التكوين الاجتماعي والجغرافية – السياسية السورية واللبنانية وحتى الأردنية والمصرية. فالضغط على النظام السياسي لا يعني أن الأحزاب السياسية وحتى الحركات المدنية بمعزل عن هذه الضغوط، لن المطلوب إحداث تبدل ثقافي مرافق لتبدل الدور السياسي.

في سورية اليوم قلق واضح من تسارع الأحداث ومن وضوح الاستراتيجية الأمريكية في محاصرة الدولة والمجتمع. فالمسألة لم تعد سحب القوات السورية من لبنان، وخلق حالة فصل واضحة بين البلدين على الصعيدين السياسي والاجتماعي، بل أيضا قلب المفاهيم السائدة وتضيق مجال البحث عن حلول خارج إطار ما يتم طرحه في الولايات المتحدة. وإذا كانت الضغوط الدولية استطاعت تفجير الوضع سياسيا في لبنان، فإنها تسعى لإدخال المنطقة ضمن إطار من الاحتمالات المفتوحة، بما فيها إعادة لبنان إلى مرحلة الستينات، عندما كانت بيروت عاصمة للمعارضة السورية، ومركز الترتيب لضغط على دمشق.

ربما تعيش سورية اليوم مرحلة تعيدها إلى أجواء خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت محاصرة بحلف بغداد، أو بغيره من التشكيلات السياسية الناشئة على خلفية الحرب الباردة، ولكنها بلا شك تواجه استراتيجية مختلفة، لأن الموضوع الأساسي ليس النظام السياسي فقط، بل أيضا الثقافة الاجتماعية. ودمشق مدعوة اليوم اكثر من أي وقت مضى للبحث عن حلول "إبداعية"، هذه الحلول التي لا يمكن للدولة بمفردها وضعها أو تنفيذها، بل لا بد من خلق شعور عام بعملية تطويق الأزمة ودرء المخاطر.