سورية الغد

إعادة التوازن إلى العلاقات السورية – اللبنانية لا يبدو موضعا حساسا اليوم، بل أيضا يوحي بالتشاؤم، بعد احداث كانت بمجملها تحمل ردات فعل عنيفة رغم مؤتمر الحوار الوطني. حيث شكلت الأحداث والاتهامات والتصعيد، وحتى الحملات الإعلامية حول لجنة التحقيق نقطة انفصال أساسي أصبح فيها التصعيد السياسي جوهر التحرك اللبناني.

ويبدو من المواقف السورية المتتالية أن المسألة لم تعد مرهونة فقط بمبادرات تقدمها دمشق أو المملكة العربية السعودية أو حتى الجامعة العربية، لأن المشهد اللبناني لم يستقر على وضع سياسي يتيح لدمشق استقراء ما يمكن أن يتم على صعيد العلاقة مع لبنان. فصحيح أن الأحزاب الرافضة لفصل الخيار الإستراتيجية اللبناني عن السوري قالت كلمتها بقوة، لكن هذا الأمر لا ينهي عملية الانفصال داخل الحياة السياسية اللبنانية. ويبدو ان دمشق قلقة إلى حد بعيد من تقديم توازن "طائفي – سياسي" يعيد شكل الحياة السياسية لمراحل "التوازن القلق". فالمسألة بالنسبة لها ليست ما سيسفر عنه التحقيق باغتيال الرئيس الحريري، بل السيناريو الذي يريد تصفية العلاقات بين البلدين بشكل نهائي.

هذه الصورة حاول قلبها السيد حسن نصر الله عبر عام كامل، ومع الوصول إلى طاولة الحوار الوطني اللبناني فإن المسألة تبدو أكثر من تحرك سياسي من قبل حزب الله أو غيره من القوى، فهي تحتاج بالفعل إلى تكوين استراتيجي جديد، يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة القلقة التي تعيشها العلاقات بين البلدين، وتأثرها العنيف بشبكة المصالح الدولية.

عمليا فإنه وقبل اغتيال الحريري كان واضحا أن الإدارة الأمريكية تريد بالدرجة الأولى هيكلة الشرق الأوسط حتى تستطيع السيطرة على الحدث العراقي، وبات واضحا أن الجغرافية – السياسية كانت عصية على الإدارة الأمريكية بشكل دفعها لدفع الأحداث بشكل سريع. صحيح أن القرار 1559 جاء بتوافق أمريكي – فرنسي خلال اجتماعات قمة الثماني الكبار، لكنه أيضا جاء ضمن عملية إزاحة للحدث من جديد من الشرق (العراق) إلى الغرب (لبنان). وربما لولا اغتيال الحريري كان الانتظار سيستمر حتى موعد الانتخابات اللبنانية.

وتعجيل الحدث جاء عبر عملية الاغتيال، ويوضح الحساب السياسي أن غياب الحريري هو شطب لتكوين سياسي خاص، وخروج لجملة من المواقف السياسية التي كانت غائبة مع وجود الحريري. والفارق بين اليوم والأمس أن الحريري كان يملك برنامجا واضحا اقتصاديا أو سياسيا، وكان الطائف هو اللون الذي يشكل برنامجه، واليوم فإن قوى 14 آذار تملك جملة إجراءات سياسية والسؤال ماذا بعد هذه الإجراءات؟

بعض الأصوات حاولت عقلنة الحالة اللبنانية وطالبت سورية بمبادرة!! ولكن هل يمكن أن يقتنع الشارع اللبناني بمبادرة؟ وهل هناك من مبادرة وسط عملية الاستفزاز والتهييج المنظم.

إن المطالبة بمبادرة تشبه لحد بعيد "القوة الثالثة" التي طرحها الرئيس سليم الحص. وربما على سورية اليوم أن تتعرف بشكل أوضح على "المواجهة الأمريكية" التي بدأت تخوضها بشكل تدريجي منذ احتلال العراق. لكنها اليوم في لبنان أكثر وضوحا. فما يجري في لبنان ليست مسألة "شعب غاضب" .. وهي أيضا أكثر من مسألة انسحاب الجيش السوري. إنها استعجال في هيكلة المنطقة على أسلوب "الشرق الأوسط الكبير" باستغلال مواقع كانت منسية، أو تناستها الإدارة الأمريكية. وربما لا جدوى اليوم من التحليلات التي يطرحها البعض عن "الأخطاء" أو "الممارسات" ففي النهاية المواجهة السياسية اليوم قائمة، والمبادرة السورية المطلوبة لا يمكن أن تكون رسمية فقط .. بل يجب ان تكون مبادرة اجتماعية قادرة على تجاهل الاستفزاز، حتى ولو نسيت معظم القوى أن لبنان منذ استقلاله كان يحاول دائما خلق المنافذ نحو سورية.