ثلاثة اسباب تجعل تقسيم الدوائر الانتخابية عقدة العقد في اي قانون جديد وهي الآتية:

"اولا: غياب الاحزاب الوطنية التي تجرى الانتخابات النيابية على اساسها بحيث ان الناخب يقترع للائحة هذا الحزب او ذاك بعيدا من المشاعر الطائفية وحتى عن العلاقات الشخصية والانتماءات المناطقية كما كان يحصل عندما كان الناخبون يقترعون للائحة "الكتلة الوطنية" التي كانت تضم مرشحين من كل المذاهب والمناطق وكذلك "الكتلة الدستورية" وكان التنافس بينهما سياسيا وليس طائفيا. فمن يفوز منهما بأكثرية المقاعد يكون له الحكم بكامله من رئاسة الجمهورية الى رئاسة المجلس الى رئاسة الحكومة والى حكومة تتألف من الحزب الفائز. فكان الامير مجيد ارسلان يخوض الانتخابات على لائحة "الكتلة الدستورية" وشقيقه نهاد يخوضها على لائحة "الكتلة الوطنية" وكان صبري حمادة يخوض الانتخابات على لائحة "الكتلة الدستورية" ويخوضها منافسا له خاله فضل الله حمادة على لائحة "الكتلة الوطنية".

ثانيا: التغيير الديموغرافي الذي حصل منذ عام 1943 الى اليوم بحيث باتت الاكثرية الناخبة اسلامية في مقابل اقلية مسيحية، والاختلاط المذهبي في كل دائرة يطغى فيه عدد طائفة على اخرى، وهذا الوضع الديموغرافي الجديد كان من اسبابه حصول هجرة مسيحية واسعة عدا التفاوت في الانجاب بين المسيحيين والمسلمين جعل معظم المرشحين المسيحيين في محافظة البقاع يفوزون بأصوات المسلمين ومعظم المرشحين المسيحيين في محافظة الجنوب يفوزن ايضا بأصوات المسلمين، وكذلك الامر بالنسبة الى المرشحين المسيحيين في محافظة بيروت، ولم يبق سوى محافظة الجبل التي يفوز فيها معظم المرشحين المسيحيين بأصوات المسيحيين ولا تزال محافظة الشمال محافظة الى حد على بعض التوازن بين المسلمين والمسيحيين.

لذلك، فان اعتماد المحافظة اساسا لاجراء الانتخابات النيابية يجعل معظم المرشحين المسيحيين يفوزون بأصوات المسلمين وتصبح ارادتهم غير حرة في التعبير عن آرائهم ومواقفهم من القضايا المطروحة حتى المصيرية منها، اذ انهم يضطرون لالتزام موقف رئيس اللائحة ومسايرة اتجاهات الناخبين المسلمين اذا اراد ان يحافظ على مقعده النيابي في انتخابات مقبلة والا خسر هذا المقعد اذا خالف رأي الاكثرية الاسلامية الناخبة او خالف رأي رئيس اللائحة، فتصبح المنافسة بين المسيحيين والمسلمين في عدد المقاعد النيابية التي نص عليها اتفاق الطائف مناصفة دفترية ليس الا.

ثالثا: ان النقاش في قانون الانتخاب ليس نقاشا تقنيا بقدر ما هو نقاش سياسي ومصلحي، واهميته هو في ان شكل تقسيمات الدوائر الانتخابية يجعل فوز معظم المرشحين معروفا سلفا وبمجرد انضمامهم الى لوائح ائتلافية تجمع بين حزبين قويين او زعماء اقوياء.

الواقع هو ان مشكلة طرأت وهي مشكلة التوازن الديموغرافي العددي بين الطوائف. البعض يعتقد ان لبنان هو بلد العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين وان توازنهم هو الذي يحمي النظام والديموقراطية في لبنان. لكن هذا التوازن يتجه نحو الاضمحلال. فالناخبون اليوم هم ثلث من المسيحيين، وثلثان من المسلمين. لذلك فان اي تقسيم يعتمد حتى الدائرة المصغرة، ولا يعتمد الدائرة الفردية، يجعل ناخبين فيها من طائفة، تطغى عدديا على طائفة اخرى، وهذا ما جعل البطريرك صفير يقول إن بعض اهل السياسة جاء يشكو من ان تقسيم دائرته وفيها خمسون الف ناخب من لون واحد اضاف اليها مئة وخمسين الف ناخب من لون آخر، وفي هذه الحال تكون النتيجة معروفة سلفا. ولفت البطريرك الى اهمية تقسيم الدوائر على عدد النواب كما في كل دول العالم تقريبا بحيث يعرف النائب الناخبين وهؤلاء يعرفون نائبهم.

ان مشكلة التوازن الديموغرافي الذي اصبح مفقودا بين المسيحيين والمسلمين لا حل لها الا باعتماد النظام الحزبي اساسا لتأليف اللوائح في الانتخابات بعد ان يوضع نظام يحقق قيام احزاب وطنية لا طائفية او باعتماد الدائرة المصغّرة التي لا يتجاوز عدد المرشحين فيها الثلاثة او الاربعة، والافضل اعتماد الدائرة الفردية التي تؤمن التمثيل الصحيح للناخبين والمواطنين وتحقق الديموقراطية، بعدما تبين ان كل القوانين الانتخابية لا سيما بعد اتفاق الطائف لم تحقق الوحدة الوطنية ولا الانصهار الوطني ولا عززت العيش المشترك، لأن التقسيمات الانتخابية التي اعتمدت وضمت خليطا من المذاهب بقصد ترسيخ العيش المشترك وتحقيق الانصهار الوطني، عززت الطائفية لأن المشاعر المذهبية هي التي تحكمت بعملية الاقتراع وافرزت نتائج لا تحقق الوحدة الوطنية الصحيحة، وهي وحدة لا تتحقق الا اذا قامت على توازن وطني او بقيام دولة علمانية يحكم فيها اصحاب الكفايات، وليس التوزيع الطائفي المتوازن على حساب هؤلاء. وبما ان التوازن الوطني والديموغرافي مختل، فلا شيء يضمن صحة التمثيل الشعبي وشرائح المجتمع والفئات السياسية كافة، سوى قيام احزاب وطنية ودولة علمانية او دائرة فردية، اي لكل نائب دائرة، والا فان قوانين الانتخاب في لبنان تبقى مهمتها تحديد النتائج قبل الاقتراع.

ويقول رئيس الرابطة المارونية ميشال اده تأكيدا لما جاء في البيان الاخير للرابطة: "ان الترجمة الملموسة لروحية ولنص ما يفرض الدستور واتفاق الطائف تتجلى باعتماد التقسيمات الادارية التي يتوافر فيها التوازن قدر المستطاع وان بنسب من التفاوت لا ينبغي لها ان تؤدي الى غلبة مهيمنة لأي فئة من لون معين في المناطق المختلطة على فئة اخرى من لون معين آخر.

وكان العميد كارلوس اده قد اقترح اعتماد الدائرة الفردية المعتمدة في الدول الديموقراطية لأنها تسهل التواصل مع المرشح الافضل والتصويت له وتجعل الناخب يحاسب النائب. هذا الاقتراح يمكن العودة اليه والبحث فيه جديا ولكن بعد خفض عدد النواب اذ ان الابقاء على العدد الحالي يجعل عدد الناخبين في الدائرة الفردية، قريبا من عدد الناخبين لانتخاب رئيس بلدية.

ويذكر ان النائب الراحل ادمون نعيم ذهب بنتيجة الخلل الحاصل في التوازن الديموغرافي بين المسلمين والمسيحيين الى حد اقتراح ان ينتخب كل من الطائفتين نوابهما تحريرا لارادتهما لأنه لاحظ ان الفئة الاكثر عددا وهي المسلمة، تفرض اختيارها على الفئة الاخرى وهي المسيحية مما ادى الى اهمال الرغبات الطبقية للفئة المسيحية سواء في مضمون التشريعات او في مضمون تأليف السلطة التنفيذية.

الى ذلك فان المطالبين باجراء انتخابات نيابية مبكرة كانوا يعتمدون على القانون الذي ستنجزه الهيئة الوطنية، وبما ان هذا القانون سيتأخر انجازه واقراره بسبب انقسام الآراء حول تقسيم الدوائر، فلم يعد ثمة امل باجراء هذه الانتخابات في المدى المنظور توصلا الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.