يكرر المسؤولون الأميركيون في كل مناسبة ولدى محادثاتهم مع سياسيين آخرين بأنه ينبغي على النظام السوري تغيير (سلوكه) أي بصريح العبارة تغيير سياساته حتى ترضى عنه الإدارة،

وخاصة مواقفه مما يجري في العراق ولبنان وفلسطين، كضبط حدوده مع العراق وتوظيف جيشه لخدمة المشروع الأميركي وإغلاق مكاتب فصائل المقاومة الفلسطينية في دمشق حتى لو كانت مكاتب إعلامية،وتناسي الأراضي السورية التي تحتلها إسرائيل

وإلغاء الدور السوري الإقليمي والانكفاء داخل الحدود، ولكي لا يبدو أمر المطالبة الأميركية بأنه خدمة للمصالح الأميركية والإسرائيلية فقط تزينه الإدارة الأميركية عادة بإضافة ضرورة تنفيذ مطلب الإصلاح الداخلي وتحويل النظام الشمولي إلى نظام ديمقراطي، دون الاهتمام جدياً بهذا المطلب الأخير،

وإن حقق النظام السوري المطالب الإقليمية دون الداخلية يكون بنظر الإدارة الأميركية قد حسّن (سلوكه) وغير سياساته بما يتناسب مع مشروع الشرق الأوسط الكبير، الهدف النهائي لسياسة الإدارة في المنطقة، وعندها فقط تخف الضغوط وتتلاشى التهديدات وتبدأ العلاقة مع النظام السوري تتحول من العداء والبغضاء إلى علاقة تشبه السمن والعسل.

من جهة أخرى ترى المعارضة السورية على مختلف فصائلها في الداخل والخارج ـ إلا ماندر ـ ضرورة أن يغير النظام سياساته تغييراً جذرياً ولكن بجوانب أخرى غير تلك التي تسعى إليها الإدارة الأميركية، لأن المعارضة السورية هي أكثر تشدداً وجدية في إطار موقفه الاستراتيجي مما يجري في العراق،

حيث ترى ضرورة دعم المقاومة العراقية بمختلف السبل وتنادي بإنهاء الاحتلال وانسحاب قوات الغزو والحفاظ على وحدة أراضي العراق وسيادته، وترفض التدخل الخارجي بشؤونه سواء كان هذا التدخل احتلالاً عسكرياً أم تواجد ميليشيات أم نفوذاً مباشراً على بعض الفئات السياسية العراقية هدفه الحفاظ على مصالح الآخرين وراء الحدود وليس على مصلحة العراق والعراقيين.

وهي أي ـ المعارضة السورية ـ أكثر تشدداً من النظام فيما يتعلق بدعم المقاومة الفلسطينية ورفض التهاون والهوان والإصرار على تحرير الأرض السورية المحتلة، التي كادت أن تنسى، وفي إطار موقف استراتيجي وليس تكتيكياً تقتضيه مصالح استمرار الحكم أو تخفيف الضغط عليه،

أما فيما يتعلق بالعلاقات السورية اللبنانية فترى المعارضة تغيير سياسة النظام فعلاً وبناء علاقات مميزة تحترم سيادة كل من البلدين ومصالح شعبيهما وتخدم الإرث التاريخي والواقع الجغرافي والنسيج الاجتماعي المشترك،

وإخراج العلاقات من الألاعيب (التكتيكية) لتدخل في إطارها الاستراتيجي الصحي والصحيح، انطلاقاً من احترام مبدأ أن لا يحكم لبنان من سوريا وأن لا يكون مقراً وممراً للعدوان على سوريا، وليس كما تريد الإدارة الأميركية تأسيس قطيعة أبدية بين البلدين.

أما التغييرات التي تطالب بها المعارضة السورية فهي أن يُعد النظام المجتمع والدولة إعداداً جدياً وصحيحاً لمواجهة الضغوط والتهديدات الخارجية وخاصة الأميركية ومواجهة المصاعب والمشاكل الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية،

وأن يغير النظام سياساته (سلوكه) تغييراً شاملاً يمكنه من المواجهة، ويتسنى له ذلك بإصلاحات شاملة طالما نادت بها المعارضة تتناول الإصلاح السياسي الممثل بالعمل بمرجعية المواطنة واحترام الحرية والتعددية وتداول السلطة واللجوء لصناديق الاقتراع، وإلغاء القوانين الاستثنائية والمحاكم الاستثنائية ومحاربة الفساد،

والعمل على تحقيق توافقات وطنية وبرنامج شامل للإصلاح يتناول جميع جوانب الحياة وصولاً إلى إقامة نظام ديمقراطي تعددي ولحمة جماهيرية مما يؤهل البلاد لمواجهة الضغوط والتهديدات الخارجية، ويبقيها قادرة على فرض دورها الإقليمي محتمية بوحدة شعبها وبنظام حكم رشيد.

هكذا تتعارض فعلياً المطالب الأميركية المتعلقة بتغيير (سلوك) النظام مع مطالب المعارضة بتغيير سياساته، حقاً أن الطرفين يناديان بالتغيير ولكن لكل أهدافه ومراميه ووسائله،

وعندما تضيف السياسة الأميركية لمطالبها (التغيير الديمقراطي) فهي بنظر المعارضة إنما تفعل ذلك لذر الرماد في العيون لأنها تعلم أن موقف المعارضة من سياساتها هو الموقف الجدي الاستراتيجي الأكثر وضوحاً والأكثر عداءً من موقف النظام الذي ينحو غالباً إلى (التكتيك) وتغليب مصالحه الذاتية على غيرها من المصالح.

ولا يخفى على السياسة الأميركية أن إقامة نظام حكم ديمقراطي هو أخطر على مصالحها من النظام الشمولي.إذن هناك طرفان يناديان بالتغيير سواء سميناه تغيير (السلوك) كما يروق للأميركيين القول أم تغيير السياسات كما تقول المعارضة،

ولكن لكل تغيير أهدافه ووسائله وسبله أحدهما يهدف لتدجين سوريا والآخر يبغي صمودها، ومن المتعذر والحال كما ذكرت أن يلتقي الطرفان على نوع واحد من التغيير المنشود أهدافاً ووسائل.

لقد أوقع تداخل مفهوم التغيير المعارضة السورية بإشكاليات عدة، على رأسها خلط الرأي العام بين ما تريده وما يريده الأميركيون، واستغل بعض أهل النظام هذا الخلط استغلالاً إعلامياً مشهوداً بهدف اتهام المعارضة بالاتفاق مع السياسة الأميركية،

والإيحاء للناس بأنها صارت حليفاً مباشراً أو غير مباشر للأميركان وأن النظام هو وحده الممانع الذي يقف المواقف الوطنية المطلوبة، وبالتالي على المعارضة أن تستكين أمام الخطر الأميركي المباشر الداهم والراهن، دون تفكير هذا البعض ـ حتى مجرد التفكير ـ بالوسائل المطلوبة والممكنة التي تؤهل البلاد للمواجهة والممانعة وعلى رأسها إجراء تغييرات داخلية شاملة وعميقة وصادقة وجادة،

وأن عدم إجراء هذه التغييرات إنما يعني أن النظام غير جاد بالممانعة والمواجهة، وأنه يضعف نفسه كما يضعف البلاد في سبيل مصالح حفنة من أهل النظام يرفضون الاستغناء عن بعض امتيازاتهم غير المشروعة أو يتراجعون عن بعض فسادهم، ويقودون البلاد ـ في نهاية المطاف ـ إلى ما لاتحمد عقباه.

إن سوريا بحاجة فعلاً لأن يغير النظام سياساته، لكن السؤال المطروح هو ما نوع التغيير المطلوب هل هو ذاك الذي ترغبه الإدارة الأميركية أم الآخر الذي تنادي به المعارضة.

الخلاصة: إن التناقض عميق بين المعارضة السورية والسياسة الأميركية وإن بدا أن الطرفين يطالبان بتغيير السياسات، فالأولى تطالب بالتغيير لمنع تدخل الثانية وإفشال مخططاتها، والثانية تعمل للتغيير لتهيمن على سوريا الوطن والشعب والنظام.