تفاوتت ردود الفعل المحلية على تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية القاضي البلجيكي سيرج برامرتس، ووجد فيه كل من طرفي النزاع في لبنان مبرراً لتعزيز وجهة نظره. وبدت وجهات النظر المتضاربة انعكاساً واضحاً لما قرره مؤتمر الحوار الوطني في جولته الأولى في 2 آذار الجاري عندما أجمع المتحاورون على التحقيق الدولي توصلاً الى معرفة قتلة الرئيس رفيق الحريري. وهم بذلك سلموا بأمرين متعارضين: أولهما ادراكهم أن قرار التحقيق الدولي هو في يد مجلس الأمن، وثانيهما حاجتهم الى الإجماع على هذا الموضوع من أجل الخوض في البنود الأكثر تعقيداً في الحوار الوطني.

بل إنهم ذهبوا في خاتمة الجولة الثانية من الحوار في 14 من الجاري الى قرار مواز في أهميته للتحقيق الدولي، وهو إجماع المتحاورين على موقف واحد من العلاقات اللبنانية - السورية. فللمرة الأولى يلتقي الأفرقاء اللبنانيون، حلفاء سوريا وخصومها القريبون والبعيدون على تأييد اقامة تمثيل ديبلوماسي بين البلدين. مثل هذا الموقف غالباً ما جرّ اللبنانيين بتحريض سوري مكشوف الى اقتتال وأزمات. فلسنوات رفض فريق كبير من اللبنانيين الخوض في هذا الموضوع، ولم يتردد الرئيس رشيد كرامي عام 1962 في رفض اقتراح اقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين طرحه رئيس الحكومة السورية بشير العظمة. وكان حجة كرامي ان علاقات كهذه تضع لبنان بين فكي نفوذ الرئيس جمال عبد الناصر ونفوذ قادة الانفصال في سوريا من جراء صراعهما الحاد على الأرض اللبنانية.

والواضح أن بندي التحقيق الدولي والعلاقات الديبلوماسية مع سوريا هما النجاحان الفعليان لمؤتمر الحوار الوطني، بينما البند الثالث المتصل بلبنانية مزارع شبعا يظل ذا نجاح معلق على بند آخر لم يقره الحوار بعد وهو مصير سلاح المقاومة، وإن بدا في الظاهر على الأقل أن لبنانية المزارع وسلاح "حزب الله" متلازمان، أولهما يقود حكماً الى الآخر أو أن هذا الآخر يستمد من الأول شرعيته.

في حصيلة ذلك يبدو الموضوع الرئاسي في حكم المؤجل نظراً الى وطأة التعقيدات التي تحوطه، كون التسوية المتصلة به لا تقتصر على ربط تغيير الرئيس الحالي بطمأنة المقاومة الى احتفاظها بسلاحها فحسب، وإنما أيضاً الإتفاق على بديل يكون في منتصف الطريق بين الغالبية الحاكمة والفريق الشيعي: لا يكون من صفوف 14 آذار، ولا تعترض عليه سوريا بعدما فقدت تماماً سيطرتها على الإستحقاق الرئاسي.

مع ذلك كله كانت أولى النتائج الإيجابية الملازمة لمؤتمر الحوار الوطني المضمون اللافت لتقرير برامرتس. فالرجل لم ينقض ما أورده سلفه القاضي ديتليف ميليس في تقريري 21 تشرين الأول 2005 و12 كانون الأول، إلا أنه أحاط قسماً كبيراً من النتائج التي خلصا اليها بكثير من الغموض، ممهّداً بذلك لإعادة التحقيق في اغتيال الحريري بدءاً من مسرح الجريمة، وهو ما تورده الفقرات من 19 الى 31، عندما تحدث برامرتس عن الحاجة الى مراجعة جديدة لكثير من الإجراءات بما فيها المنهجية التي اتخذها سلفه، والتدقيق في كثير من احكامه وقد اعتبر بعضها مزاعم وأرسى فرضيات جديدة، ناهيك بتطرقه الى معلومات جديدة وإضافات مهمة في التحقيق الدولي بعضها يستمده من ثغر التقريرين السابقين والبعض الآخر من المسار الجديد لعمل لجنة التحقيق.

على أن هذه المعطيات لم تشكّل حافزاً رئيسياً لرد الفعل الأميركي على تقرير القاضي البلجيكي بعد ساعات على صدوره وقبل مباشرة مناقشته أمس في مجلس الأمن.

واستناداً الى تقرير ديبلوماسي أميركي بلغ جهات معنية في لبنان، فإن تقويم الخارجية الأميركية للتقرير الثالث تركز على الآتي:

ـ وجدت واشنطن أن تقرير برامرتس، خلافاً لتقريري سلفه، شدد على المساعدة التقنية للحكومة اللبنانية وعلى الإعتداءات الـ14 التي تعرّض لها لبنان منذ الأول من تشرين الأول 2004. وهو تبعاً لذلك يطلب مساعدة إضافية من الأمم المتحدة من جهة، وطبع نفسه بسمة العمل المهني الذي لم يوغل في ربط المعلومات القضائية بالإستنتاج السياسي على نحو الأسلوب الذي عمل به ميليس من جهة أخرى. ولاحظت واشنطن أن تقرير برامرتس اتخذ من تقريري سلفه أرضية متينة لتحقيقاته، ولم يدفع بها في اتجاه معاكس لما أراده القاضي الألماني، وهو حصر الشبهات بمسؤولين سوريين وآخرين لبنانيين. بل ثمة ديبلوماسيون في الخارجية الأميركية رأوا في منحى برامرتس تأكيداً لاستقلال عمل لجنة التحقيق الدولية و"تدقيق وتصويب أكثر" لخلاصات سلفه، فاقترح إجراء مزيد من المراجعة وجمع المعلومات عنها، ولكن تبعاً لمنهجية مغايرة كانت قد حملت برامرتس على تغيير فريق المحققين الرئيسيين المعاونين له، ولزم الصمت وكتم طريقة عمله حتى أمام المسؤولين والقضاة اللبنانيين.

ـ يعيد التقرير الثالث تأكيد ما ألحّ عليه التقريران السابقان، وهو الحاجة الى تعاون الحكومة السورية مع لجنة التحقيق الدولية وتقديم المعلومات والشهود لكشف قتلة الحريري. وتضع واشنطن التعهّد الذي قطعته دمشق لإجراء مقابلة بين برامرتس وكل من الرئيس السوري بشار الأسد ونائب الرئيس فاروق الشرع في إطار هذا التعاون، وتأمل في ألا يكون "لفظياً وغير كاف"، إلا أنه في أي حال برسم الإختبار بعدما لمس ميليس تحفظاً سورياً عن التعاون معه. ويحمل هذا الموقف واشنطن على القول، تبعاً لتقويم الخارجية الأميركية، إنها تشاطر القاضي البلجيكي قلقه من صدقية سوريا في تعاونها معه، في معرض تقليلها مغزى تفادي برامرتس تسمية أي مسؤول سوري يشتبه في ضلوعه في الإغتيال على نحو ما فعل ميليس، وإبرازه رغبة سوريا في التعاون من غير ان يربط اغتيال الحريري بالجرائم والاعتداءات التي سبقته أو تلته. بذلك يكون برامرتس قد أحدث فصلاً مقلقاً لفريق 14 آذار كان قد تحمّس له ميليس، وهو توجيه اصابع اتهام مباشر الى سوريا لمسؤوليتها عن الجرائم والاعتداءات هذه.

ـ إن واشنطن تصرّ على أن تذعن دمشق للقرار 1636 من خلال تعاون غير مشروط، وأن تذعن كذلك لتنفيذ ما تبقى من القرار 1559. وهو أمر يشير الى أن الأميركيين لا يزالون يعتقدون أن دمشق لم تنفذ كل ما طلبه منها القرار 1559.

والمقصود بذلك الوقف الشامل لتدخلها في الشؤون اللبنانية. وهو يعكس مقاربة إضافية وتكاد تكون منقحة للقرار 1559 الذي لا يقصر الإلتزامات السورية حياله على انسحاب جيشها النظامي واستخباراته العسكرية من الأراضي اللبنانية، وإنما أيضاً ما تعتبره الخارجية الأميركية "تلاعباً" سورياً بالإستقرار اللبناني، ناهيك بعلاقات تحالف وثيق لا تزال تجمعها بالرئيس اللبناني و"حزب الله" اللذين، وفقاً للتقرير الديبلوماسي، يساهمان في تعزيز التدخل السوري في الشؤون اللبنانية.