أطلقت دول أوروبا على السلطنة العثمانية، قبل ثلاثة أو أربعة عقود من انهيارها، لقب “رجل أوروبا المريض”. ذلك أن اكبر إمبراطورية إسلامية في التاريخ المعاصر كانت قد ضعفت وترهّلت، وأصاب الوهن أطرافها، وامتد إلى قلبها، فأضحت هدفاً لمطامع الطامعين ومنهبة لهم على كل صعيد. لعل دول العرب، ورثة بعضٍ من تركة الإمبراطورية المكسورة والمنهوبة، هي اليوم “رجل العالم المريض”، وليس رجل أمريكا وأوروبا فحسب، لأن كل دولة قوية في عالمنا المعاصر تنظر إلى دول العرب، الراتعة في ضعفها وتفككها وترهلها، وكأنها ارض سائبة أو ما يشبه ذلك، منها تستدر الأرزاق والصفقات والمغانم، وعليها تجري التسويات لاقتطاع أقسام منها أو توزيعها مناطقَ نفوذ وشطور أسواق.

إن المرء ليعجب لهذه النظرة الدونية الى عرب القرن الحادي والعشرين، ولهذا الإجماع أو شبه الإجماع على امتهانهم واستغلالهم وجعل أراضيهم ومواردهم منهبة للطامعين ومدار إثراء واقتناص وقرصنة بين لصوص الأمم والدول. وما كان العالم لينظر إلى العرب هذه النظرة الدونية لولا أنهم هانوا ووهنوا وارتضوا لأنفسهم هذا المصير البائس. فما من جهة أساءت إلى العرب قدْر اساءتهم إلى أنفسهم، وما من حاكم أجنبي أذل العرب بقدْر ما أذلهم حكام عرب من بني قومهم. العرب أعداء أنفسهم بامتياز. لقد طال عهد الانحطاط حتى بات قدراً لنا وطريقة حياة. وإلاّ كيف نفسر هذا الإدمان على التراجع إن لم يكن مصدره إدماناً على الانحطاط؟

تقاسمتنا دول أوروبا بموجب اتفاقية سايكس- بيكو، فعزونا ذلك إلى قلة حيلتنا بسبب استبداد حكامنا العثمانيين ثم بسبب سيطرة مستعمرينا الأوروبيين. لكن فرصاً من التحرر والحرية والاستقلال أتيحت لنا بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي، فما أحسنا اغتنامها وما بنينا قوةً ذاتية لنترسمل عليها في ساحات الصراع والتنافس بين الدول والشعوب.

لقد جرى اغتصاب فلسطين وتهويدها وطرد أصحابها منها على مدى أكثر من نصف قرن، فما استطعنا ان نردّ عنها هجمات المغتصبين الصهاينة، بل ان هؤلاء تمكّنوا من استكمال اغتصابها في أقل من عقدين، ثم فاض اغتصابهم لها ليشمل أراضي جيرانها والتجذر فيها والتطلع بنَهَم وشَبَق إلى ما يتجاوز الأراضي المسلوبة ليلامس فولكلور امتداد “إسرائيل” في أساطير التاريخ من الفرات إلى النيل.

اليوم يجري اغتصاب العراق واقتسامه في رائعة النهار ولا من يعي خطورة التحدي او يستجيب. ولا يفوت قادة أمريكا ملاحظة وَهَن العرب وهوانهم، فيقف واحد منهم، قائد عمليات جيش الاحتلال في العراق الجنرال جون أبي زيد، وهو يا للمفارقة من اصل عربي، ليعلن جهاراً نهاراً قبل أيام أن الولايات المتحدة تريد الإبقاء على قواتٍ لها في العراق ضمن قواعد على المدى البعيد “من اجل تفعيل دور المعتدلين على حساب المتشددين في المنطقة وحماية آبار النفط”.

لقد استضعفونا فوصفونا، كلٌ بما يخدم مصالحه ومطامعه. لعلهم أقاموا، جميعاً، في ما بينهم شركة مساهمة متعددة الجنسية لاقتسامنا واستغلالنا وامتصاص خيراتنا. احدى اذرع هذه الشركة العملاقة ما يسمى “اللجنة الرباعية” التي تقاسم أعضاؤها، بل الشركاء فيها، الأدوار. فالأمريكيون يمدون الصهاينة بالمال والسلاح، والبريطانيون والفرنسيون بالأغطية الدبلوماسية والسياسية، والروس ببذل الجهد لتطويع “حماس” وحملها على الاعتراف ب”إسرائيل”، والأمم المتحدة بشرعنة أعمال الاغتصاب والاستيطان والتوسع وارتكاب الجرائم الموصوفة بطائفة من القرارات الدولية التي تبقى على مرّ الزمن حبرا على ورق.

ما مناسبة هذا الكلام المستعاد والذي نعاود اجتراره منذ عقود؟

إنها “ذكرى” انعقاد القمة العربية أواخر الشهر الجاري. نكرر هذا الكلام للتذكير والتحفيز واستفزاز العقول الخاملة لترى أبعد من أنوفها، وقد آن أوان التفكير بوقف مسيرة الانحطاط والتراجع، واوان التخطيط والتدبير لوضع ما يُتفق عليه موضع التنفيذ بلا إبطاء. اجل، آن أوان التوقف عن إنفاق الوقت والجهد والمال والأرض من إرث الماضي والتفكير بصيغة المستقبل للمحافظة على ما تبقى من تلك الموارد الموروثة من أجل الحاضر والمستقبل معاً.

لدينا طاقة غنية، وفعالية قوية، وفرصة تاريخية، فلنُحسن تثميرها واستثمارها. الطاقة، وهي النفط، سلاح لا مناص من استعماله على نحوٍ يخدم مصالحنا وتطلعاتنا. الفعالية هي الصحوة الشعبية الإسلامية التي تتفجر في حركاتِ ممانعة ومقاومة تلفّ القارة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فلنغتنم ضغوطها المتصاعدة على محتلي أرضنا ومغتصبي ثرواتنا، وليتذرع الحكام بخطر تناميها وتوسعها ليحملوا المحتلين والمغتصبين الأعداء على التسليم بضرورة التوقف عن العدوان والنهب، والتسليم بتقديم تنازلات. الفرصة هي التناقض الشديد بين الغرب الأطلسي، الأمريكي والأوروبي، من جهة وإيران من جهة أخرى الأمر الذي يتيح لنا استثماره بشجاعة وحكمة لتعديل موازين القوى الراهنة ونفتح فيها ثغرة تساعدنا على الإفلات من طوق قوى الهيمنة والاستتباع والاستغلال. ألم يُحسن جمال عبد الناصر اغتنام فرصة مماثلة في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، فتمكّن بمؤازرة من السعودية بقيادة فيصل بن عبد العزيز، وقادة سوريا بتوجيه من قواها القومية، وتأييد الجماهير بين المحيط والخليج، من ردّ هجمة الاستعمار القديم في حرب السويس، وتعطيل غزوة الأمريكيين اللاحقة بتحقيق وحدة مصر وسوريا؟

إن قادة مصر والسعودية وسوريا والجزائر، وهي كبرى دول العرب في القدرات والإمكانات والارادات، مدعوون إلى توظيف مؤتمر القمة العربية المقبل في النهوض إلى مطلب الخروج من مستنقع الحبوط والقعود إلى منصة الانعتاق والانطلاق في مسار التحرر والتغيّر وصنع المصير بقوانا الذاتية ولخدمة مصالحنا الوطنية وتطلعاتنا الإنسانية.

حذار الانزلاق إلى وهم الاعتقاد بأن خطر إيران أولى بالاهتمام من خطر “إسرائيل” والأمريكان.

أمريكا حاولت في خمسينات القرن الماضي إيهامنا بأن خطر الشيوعية أولى بالاهتمام من خطر الصهيونية، فما انطلى الخداع على عبد الناصر ورفاقه. فهل تراه ينطلي علينا خداع الأمريكان اليوم بخطر إيران النووية وأولويته المزعومة على أخطار “إسرائيل” التوسعية ومطامع الاحتلال الأمريكي في العراق ودعاويه الديمقراطية على حقنا الشرعي بالحرية في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا، وحقنا المشروع في البقاء والإنماء والنماء