محمـد العبـد اللـه

العملية العسكرية الوحشية التي استهدفت سجن أريحا والمقاطعة صباح يوم الثلاثاء في الرابع عشر من الشهر الجاري لم تكن وليدة الإجراء الأمريكي / البريطاني بالانسحاب من مواقع المراقبة، وبالتالي من كل "الضمانات" الدولية المبرمة مع السلطة، بمقدار ماكانت ثمرة جهد استمر لأكثر من عشرين شهراً لرسم خطوط الحملة العسكرية على السجن، واجراء التعديلات على تنفيذها بين فترة وأخرى بما يحقق للعدو سرعة الإنجاز وبأقل الخسائر، وهذا ماتأكد قبل أسبوعين من الهجوم، خلال إجتماع ضم قادة العدو العسكريين، والذي توج بأمر وزير الحرب "موفاز" لقوات عسكرية مشتركة_ تم اختيارها بعناية شديدة من أجل انتظار موعد التنفيذ_ بالتجمع في معسكر "النبي موسى" قرب أريحا. لقد كشفت صحافة العدو خلال الأيام الأخيرة، المستندة إلى معلومات مؤكدة من داخل غرف القيادة العسكرية / السياسية، أن العملية الهجومية على السجن، والتي أختير لها اسم "جلب البواكير"، اعتمد تنفيذها من خلال التنسيق الكامل مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وهذا ماصرح به القائم بأعمال رئيس الوزراء في كيان العدو "ايهود اولمرت" بقوله (إن عملية اقتحام سجن أريحا كانت تحظى بدعم تام من الحكومتين البريطانية والأمريكية، لقد سمعتم تصريحات وزير الخارجية البريطاني ومسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية، لم يشتك أي منهما، أو يمارس ضغوطاً، أو يعبر عن أي طلب). وزير الحرب الصهيوني، اعترف لصحيفة "هآرتس" الصادرة باللغة العبرية بأن (حكومته كانت على علم مسبق بموعد انسحاب الحراس البريطانيين والأمريكيين من سجن اريحا).

الجانب الرسمي الفلسطيني "تصريحات محمود عباس وناصر القدوة" أكدت وصول كتاب رسمي في الثامن من الشهر الحالي، يتضمن قرار الطرف الأمريكي / البريطاني المشرف على المراقبة بالانسحاب، استناداً لمبررات "واهية" يأتي في مقدمتها "الحفاظ على سلامة المراقبين" بدون الإشارة إلى الطرف الذي يهدد هذه السلامة المضمونة فلسطينياً منذ سنوات. لقد جاءت العبارات الغاضبة التي أطلقها الرئيس الفلسطيني وهو يتفقد حجم الخراب في موقع السجن، معبرة عن صدمته لهول مارأى. فقد تهاوت "رهاناته " المتكررة عن حيادية الإدارة الأمريكية وتابعتها الحكومة البريطانية، وعلى انكشاف "الادعاءات" الكاذبة لحكومة العدو عن "احترامها للإتفاقيات" وهو ماصرح به للصحافيين أثناء جولته بالموقع (إن الهجوم الاسرائيلي يعد جريمة لا تغتفر وإهانة للشعب الفلسطيني). لكنها بالتأكيد ليست الجريمة الأولى ولن تكون الأخيرة، فالشعب يعاني في كل يوم، ومنذ النكبة وقيام الكيان الصهيوني من "الجريمة المنظمة لدولة الارهاب". أما الحديث عن الاهانة، فهو الوصف الحقيقي لحالة الغضب الواسعة التي أذهلت الجماهير وهي تتابع لقطات "التعري" التي نفذتها عناصر الأمن الفلسطيني استجابة لأوامر قوات العدو. إذا كانت هناك إهانة _ وهي واقعة بالفعل _ فإنها ستكون لقيادة المؤسسة التي أمرت عناصرها بالاستسلام. الملايين ممن تابعوا الأحداث على شاشات التلفزيون يتساءلون: هل نفذ هؤلاء أوامر عليا بعدم المقاومة وتسليم السلاح، أم هم يفتقدون لروح المقاومة والتضحية. في مثل هذه الحالة من المواجهة، ينهار ويسقط "الموظف" ويقاتل إلى النهاية "المناضل الحقيقي" وهو ماتجسد بالأبطال من الشهداء والجرحى من أفراد الأمن الوطني، الذين قاتلوا دفاعاً عن شرف الموقف والانتماء. لقد غطى"العار" تلك الأجساد العارية، كما تكلل بالغار رأس "أحمد سعدات" ورفاقه وكل من قاتل دفاعاً عن الموقع والموقف الوطني. صورتان متناقضتان تعكسان موقفان في المشهد السياسي / الاجتماعي الفلسطيني، صوت "سعدات" المتفجر دفاعاً عن الشعب والمقاومة والصمود، المتَوَحد مع طلقات المدافعين عن الموقع والأرض والكرامة، وصور الأجساد التي لم تنزع ملابسها فقط، بل نزعت ورقة التوت التي سترت "عنجهيتها" الوهمية لسنوات .

لقد أكدت الصفقة بين أمريكا وبريطانيا وحكومة العدو الصهيوني مجدداً حقيقة التحالف بين هذه الكيانات، وأثبتت أن المصالح المشتركة لهما في منطقتنا والعالم تفرض على كل منهما تأمين رغبات ومطالب الآخر، كما يحدث في تحالفاتهما المتبادلة في أكثر من مكان، بغض النظر عن القانون الدولي وملحقاته من اتفاقيات ومعاهدات، ولهذا فالحديث "المجوف" عن القانون الدولي، وضرورة احترام القرارات والاتفاقات المنسجمة معه "بغض النظر عن عدم استجابتها لمصالح الشعب والقضية" _ مايتشدق به الكثيرون عند حديثهم عن ضرورة التزام الحكومة الفلسطينية القادمة به_ يبقى سراباً ووهماً، طالما أن "الآخر" المهيمن بفعل القوة العسكرية يتحكم بالقرار وتنفيذه بما يتلاءم مع مصالحه "العراق وفلسطين نموذجاً". كما دفعت العملية للسطح، مخاوف العديدين من أن تكون قيادة السلطة قد حجبت جزءاً من المعلومات عن شعبها، خوفاً من "مأساة" التقصير، إذا لم نقل "فضيحة" التواطؤ.

لقد كشفت عملية القرصنة الصهيونية في أريحا بؤس الواقع الرسمي العربي المرهون بغالبية حكوماته للإدارة الأمريكية. وأسقطت على أرض الواقع كل الادعاءات التي كانت تسوقها قيادة السلطة، وهي تبرر اعتقال المناضلين الأبطال الذين استحقوا "الأوسمة" لإعدامهم المجرم العنصري "زئيفي". لقد تأخرت السلطة كثيراً حتى وصلت للاعتراف بخطأ حجز المناضلين، وهو ماعبر عنه "صائب عريقات" مؤخراً بالقول (كان اعتقالهم صفحة سوداء في تاريخ شعبنا) لقد كان بإمكان السلطة ورئيسها الاستجابة لمطالب الجبهة الشعبية والقوى الفلسطينية، بتصويب الخطأ الناتج عن اعتقال سعدات ورفاقه، بإطلاق سراحهم وتسليمهم لتنظيمهم ،الذي سيؤمن لهم الحماية. لقد توفرت للمؤسسة الرئاسية الفلسطينية مبررات عديدة لإطلاق سراح الأمين العام للجبهة الشعبية، يأتي في مقدمتها، الالتزام بقرار المحكمة العليا الفلسطينية الصادر في أوائل حزيران /يونيو عام 2002 المتضمن براءتة. لكن الذرائع التي لجأت إليها قيادة السلطة لتبرير احتجاز "سعدات" كانت محكومة بالأساس بمنطق الاذعان للاتفاقيات التي تَوَهَمَ أصحابها بأنها ستوفر لهم شهادات حسن السلوك عند الإدارة الأمريكية والعدو الصهيوني، على أمل الاعتراف بهم كشريك يتم التحاور معه. إنه العجز عن رؤية مخططات الخصم، وبؤس الاستنتاج بإمكانية التفاوض مع خصم تاريخي يصر على مخاطبة الشعب الفلسطيني بقذيفة الدبابة، وصواريخ الطائرات، وفرق الاغتيالات.

قرار القيادة السياسية / العسكرية الصهيونية بتنفيذ جريمة اختطاف "سعدات" ورفاقه في هذا الوقت، كان استجابة لأجندة قادة حزب "كاديما" الانتخابية، ولإرسال رسائل محددة للفلسطينيين
وأشقائهم العرب. إن "أولمرت" القادم لقيادة حكومة العدو من خارج المؤسسة العسكرية يحاول أن يحقق مافعله أسلافه من جنرالات الحرب، بتسجيل عدة نقاط لصالح تاريخه "الاجرامي" بحق الفلسطينيين، وهو ما أقدم عليه في أريحا. ليست المرة الأولى التي يقوم فيها قادة الأحزاب الصهيونية / العنصرية باستخدام "الدم الفلسطيني" كورقة انتخابية داخل صندوق الاقتراع، فقد سبقه "بيريز وشارون" في أكثر من مجزرة. كما يسعى قادة المؤسسة الحاكمة بمجزرتهم تلك، لإفهام الجميع بأنهم اللاعب الوحيد بالمنطقة، وبذلك يؤكدون موقفهم الرسمي المعلن عن "انتفاء" صفة الشريك الفلسطيني ، مما يؤدي _ حسب تبريراتهم _ لتنفيذ خطة "الانفصال أحادية الجانب".

إن مجابهة الآثار المترتبة على عملية إختطاف "سعدات" ورفاقه والعشرات من أعضاء سرايا القدس وشهداء الأقصى المعتقلين في سجن أريحا، تتطلب إطلاق حملة واسعة تهدف إلى إغلاق ملف المعتقلين السياسيين في سجون المؤسسة الأمنية الفلسطينية، ووقف كل الاجراءات التي تهدف راهناً ومستقبلاً، الاعتقال والتوقيف السياسي. إن جهداً استثنائياً تفرضه نتائج ما حصل، يتطلب من الجبهة الشعبية وأنصارها وحلفائها، إطلاق حملة إعلامية / سياسية جماهيرية واسعة، محلية واقليمية ودولية، تستند إلى الهيئات والمنظمات الناشطة في دعم نضالات الشعوب ومناهضة العولمة المتوحشة والغزو الامبريالي لفضح وتعرية إرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه دولة الاحتلال الصهيوني، والعمل على إطلاق سراح القائد الوطني والعضو المنتخب للمجلس التشريعي "أحمد سعدات".

إن كل التحركات السياسية والاعلامية الواسعة، يجب أن يتضافر معها ويعزز تقدمها تصعيد المقاومة بكافة أشكالها، المسلحة منها والجماهيرية، على طريق تجديد الانتفاضة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والعمل بكل الأساليب من أجل إطلاق سراح "سعدات" وتسعة آلاف أسير فلسطيني تعتقلهم حكومة العدو في معتقلات التعذيب الفاشية. إن تجارب تحرير الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين توفر لقوى المجابهة الوطنية نماذج عملية يمكن الاقتداء بها، والعمل على هديها.