منذ زمن بعيد، لم يكن الإغتراب السوري يشكل قضية كبيرة لأي نظام سياسي حكم سوريا، إلا من ناحية الشعور بالإنتماء الوطني، وقضايا الأدب وبزوغ تجارب تصر على أواصر الرباط المقدس بين المغترب ووطنه الأصلي. ولم تكن الهجرات السابقة إلى أمريكا الشمالية والجنوبية بعد زمن الإستقلال وتشكيل الدول العربية بمقتضى معاهدة سايكس بيكو، تشكل قضايا محورية في معارضة أنظمة الحكم مهما كان شكلها ونوعها. إلى يومنا الحاضر، بعد حدوث تغييرات كبيرة في مفهوم الدولة والحكم، وبعد غياب منظومة الإتحاد السوفييتي السابق وإنتهاء زمن تشريع حكومات ديكتاتورية بإسم الثورة، أو الإنقلاب العسكري أو ماشابه ذلك. حيث ومنذ زمن قصير جدّاً بدأ وجه الجالية السورية، في إغترابها المعاصر في الدول المتقدمة خاصة، يتغير ليجاري الأحداث العالمية، عبر تصاعد مفاهيم الحرية والديموقراطية.

وبعد تزايد اعدادها خلال الربع الأخير من القرن الماضي، يحاول النظام السوري من جهته، إحياء الممكن من هذا الكم المهاجر لصالحه ولدعمه "ماأمكن" بسبب محنته الحالية من تراكم الضغوط الدولية المهددة لكيانه بشكله الحالي. هذا الكيان الذي تمتع بإستقرار طال امده، والذي تغير بشكل كبير عند صدور قرارت امريكية بمعاقبته، بصدور قرار الأمم المتحدة رقم 1559، وخروج قواته من لبنان وقيام لجنة دولية للتحقيق بإغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري التي تصّر عبر تقاريرها التي صدرت بقيام صلة له بشكل أو بآخر مع الجريمة.

تم عملية احياء علاقة الجالية السورية مع الوطن "النظام" في الماضي من خلال تشكيل منظمات الفياآراب في أمريكا اللاتينية، ومحاولات جديدة قديمة لربطها في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبعض الدول الأوروبية، عبر تشجيع الذين كانت لهم علاقة سابقة مع النظام، واصحاب المصالح والذين لا شأن لهم بالأمر السياسي، الذين هاجروا بقصد تحسين مستوى معيشتهم الإقتصادية. وأقيمت بعض المؤتمرات في الداخل السوري، واطلقت شعارات تطالب المغتربين أن يكونوا سفراء لبلادهم "النظام"، في مواطنهم الجديدة. متغاضين عن ان بعض هذه الأوطان الجديدة هو من يقوم بحملة الضغوط الدولية، وهي دول قائمة على مبادئ حقوق الإنسان والحرية والديموقراطية. وكأن على الجالية السورية المغتربة، أن تمارس حريتها في مواطنها الجديدة لدعم نظام شمولي لا يؤمن بهذه الحرية إلا إذا استخدمت لصالحه، أي مفروض على الجالية السورية أن تمارس حقوقها الأغترابية المتقدمة لصالح الوطن السوري "النظام" ، ويمنع عليها بنفس الوقت ممارسة هذه الحريات ومطالبة النظام بإحترام حقوق الإنسان، والحريات السياسية، وتعدد الأحزاب، والديموقراطية في الوطن السوري نفسه. واستطاعت الجالية السورية في الدول المتقدمة، أوروبا وأمريكا الشمالية، إضافة إلى فصائل المعارضة التقليدية، أن تشكل تجمعات مخالفة بمحتواها السياسي، لما يرغب به النظام أو كما اعتاد من مواقف ابناء الجالية المسالمة بشكل عام.

ولم تنجح الحكومة السورية وبعد تعيين وزيرة للمغتربين السوريين في الخارج، عبر بعض المؤتمرات في شدّ ابناء الوطن بشكل داعم وحقيقي للنظام، لاسباب تكمن في طبيعة تكوين النظام نفسه، وعدم قدرته على مجاراة وعي ومتطلبات الجالية السورية في الخارج، التي تنعم بالحريات وحقوق الإنسان والتي تمارس الديموقراطية في البلاد التي استضافتها. ولم يستجيب لمطالب الحكومة السورية والنظام، إلا من كان بالأصل جزءاً من النظام نفسه، أو اصحاب المصالح والمنافع في علاقتهم معه. وبقى العدد الأكبر من ابناء الجالية في البلاد المتقدمة، هادئين، في مواقفهم النقدية من النظام "المرتفعة في حلقاتهم الخاصة" ، ومتدرجين في خطوات تجاوزهم لحواجز الخوف والمصالح عبر تشكيل تجمعات سياسية بهدف مساعدة المعارضة السورية بالداخل، إنسجاماً مع طبيعة البلاد والأنظمة السياسية والحياة التي يمارسونها في أوطانهم الجديدة.

وفي كندا من الشائع ان تسمع كلاماً يقال لدى العديد من ابناء الجالية السورية "انا ضد هذا النظام بطريقة حكمه، وفساده، وقمعه للحريات المدنية والسياسية، لكنني لا أريد المغامرة في إتخاذ مواقف قد تجلب لي المشاكل خلال زيارتي للوطن، لذا، لا أستطيع أن اقوم بمظاهرة، أو اعتصام، أو أن اسجل اسمي في أي تجمع، أنا مع التغيير نحو الحرية، ونحو الديموقراطية، لكنني، مازلت بحاجة للسفر إلى البلد، لكي أزوج أبنتي، أو ابيع بيتي، أو لكي أقوم بزيارة اهلي وأقاربي.. ، وما شابه ذلك من اسباب لها علاقة بصلة الرحم، أو المصالح العملية والمادية. كما يطالب آخرين بعض الوقت لإنهاء علاقات المصالح المادية، عندها، من الممكن سماع: لن يهمني أي أمر! وسأضم صوتي بمطالب التغيير الديموقراطي السلمي".

وضمن معادلة الخوف وغياب الحريات وشبح الأمن الراكد على عقول السوريين غير السياسيين في كندا وأمريكا وبعض الدول الأوروبية، مازال العديد من أبناء الجالية يتردد في خوض تجربة إعلاء الصوت المعارض ومطالبة النظام علنياً، بالقيام بتغييرات جذرية تمس الحياة السياسية السورية بشكل مشابه للحريات الأساسية التي يمارسها هؤلاء المغتربين في أوطانهم الجديدة.

ومازالت السيدة بثينة شعبان وزيرة المغتربين تحاول تقديم أو تنفيذ الجزء اليسير من مطالب المواطنين السوريين في بلاد الإغتراب المتقدمة التي عبرّوا عنها في مؤتمراتهم في سورية، بدون إي نجاح كبير يذكر، وكأنها بذلك تحاول إرضائهم وحملهم على إعلاء صوتهم لصالح النظام بعد تزايد الضغوط الدولية عليه وبعد حدوث تحولات كبيرة في مواقف أبناء الجالية، التي بسبب معاناة المواطن السوري، وكبت الحريات، وازدياد حجم الفساد التي لم تعد روئحه تخفى على احد، قامت بتشكيل تجمعات سياسية معارضة وعقد مؤتمرات تطالب النظام بتغييرات جذرية، أو قطع العلاقة معه.

ومابين المحاولات المتعثرة للسيدة الوزيرة، والطبيعة الأمنية للنظام وعدم قدرته على القيام بالتغيير المطلوب ، يزداد عدد السوريين الذين تجاوزا حاجز الخوف والرعب من سلوك وأداء النظام. يساعد على ذلك عدم قدرة النظام القيام بإعتقالات عشوائية بالجملة، بسبب المراقبة الدولية المستمرة لسلوكه، وبسبب عدم قدرة المغتربين على القيام بخطاب مزدوج المعايير، وهو المطالبة بدعم نظام لا يمكن وصفه إلا بالنظام الشمولي، بينما تستخدم معايير الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان للقيام بهذا الدعم!