نجيب نصير

بين خمسينيات القرن الماضي والعشرية الاولى من القرن العشرين، حصلت معجزة الفاقد الثقافي، والتي عبرت عن نفسها في الكثير من اوجه الاداء المعرفي الاجتماعي، على اساس كونها وعد قابل للتطور من زمن ما بعد الاستقلال الى يومنا هذا، ولعل تجليات هذا الفاقد تبدو جلية في النشاط العام للمجتمع من ترهل المؤسسات حتى الحفاظ على نظافة الشارع، وما بينهما من اداء ربما يمكن تعريفه عبر المقارنة مع بلدان كانت خلفنا واليوم تسبقنا بمسافات طبعا مع فوارق الخصوصية البيئية، ولعل ما فتح هذا الموضوع هو طرح بعض الشركات اسهما للاكتتاب العام وهي صيغة مطروقة في كل بلدان العالم بل وايجابية لانها تحول المدخرات الجامدة الى اسس متحركة ومفيدة، وهو ما كان موجود في بلدنا في خمسينيات القرن الماضي كبداية اقتصادية واعدة، يتعامل الناس معها بمحض ثقافتهم ومعارفهم العمومية كونها جزء من الحراك الاجتماعي، فيشترون الاسهم ويبيعونها باستخدام خبراتهم المتناسبة مع تلك الحقبة.

واستطاع وقتها الحراك الاقتصادي التأسيس ليس فقط لتقاليد اقتصادية ناشئة وانما التأسيس لبنية اقتصادية محرزة للتأميم، الذي اوقف هذا النوع من الحراك الاقتصادي لصالح نوع آخر كان سائدا فيما بعد.

والمشكلة التي اظهرتها عملية طرح الاسهم للاكتتاب ليست اقتصادية بالمعنى العملي للكلمة، انما هي مشكلة تخبط ثقافي يعاني منها المجتمع بحدة، حيث بدا سقف هذه العملية الاجتماعية الاقتصادية معرفيا متهافتا بشدة وانحصر في رأي الناس حول الحلال والحرام ومدى شبع طارحي الاسهم. فالشبعان لن يسرقنا في مناقشة عامية لشأن اقتصادي خطير، عانت منه دول وبلدان، والادهى ان المؤسسات العامة التي يفترض ان تكون مسؤولة عن أمن المواطن اقتصاديا لم تتدخل لا قانونيا ولا بحملات التوعية على اساس انه شغل قطاع خاص في تكملة غير مقصودة للفاقد الثقافي، لنفاجأ على صفحات الجرائد والانترنت بمقالات خاصة تشرح علميا معنى طرح الاسهم للاكتتاب والتداول ..

هذه العلميات وحدها طامة كبرى، اذ اكتشفنا اننا خارج عصر الاقتصاد وادواته ومصطلحاته ومؤسساته التقييمية، وبالاصح اننا ما زلنا في زمن الاقتصاد البسيط تجارة وصناعة حيث الذكاء الافرنجي (الفهلوة بالعربي) هو مقياس النجاح ليس بالبزنس فقط وانما بدخول الجنة، بينما فاجأنا بعض الباحثين بالفاظ كبيرة منها العربي ومنها المعرب عن الفاقد والمهتلك والربح الصافي والربح الرأسمال ورأسمال التقديري والاسمي والى ما هنالك من الفاظ علمية معاصرة بالاضافة الى اسماء لشركات عالمية موثوقة تقوم بالقياس والتعيير والايضاح عن موقف الشركة وتوقعات المستقبل الذي هو حسب العقلية الحالية في علم الغيب .

فشكلت هذه التحليلات الجادة صدمة لنا فهي غير مدرجة في ثقافتنا العامة حتى نفهمها ونتعامل على اساسها ، ويستطيع اي امي مقتدر اي شبعان ان يردها على اعقابها قائلا انها علاك مثلا او صادرة عن حاقدين ، وليس للكثير من الناس القدرة على التفاعل معها .

هذه المشكلة لا تحلها القوانين المصمطة فأي قانون يمكن اللعب عليه بمهارات الفهلوة ومرافقاتها من سطوة واعلان ودعاية وارشاد ، والحل يكمن بفتح الثقافة المجتمعية على الممارسة المعاصرة بشتى فعالياتها دون خوف من وعي طارىء يمارس حقوقه بعقلانية مثمرة ، بدلا عن التمرغ في التجريب الجزئي الممغمغ والموارب ، فلا هو بمعاصر بما تقتضيه ضرورة العيش في الزمان وبين الامم ، ولا هو باجتماعي انتجته بنية حيوية فائقة النجاح والتطور ، لذا لم يبق لدينا الا المستقبل لنصنعه …. فلنبدأ !!!!