تتمثل قيمة أي إعلان .. أو بيان .. أو خطاب سياسي (خصوصاً خطاب التغيير المدني الديمقراطي السلمي) في قوة الضرورة التاريخية المؤدية لإطلاقه. وفي استجابته لأوسع الميول والتطلعات التي تخدم الحياة وتتفاعل تحت الأعماق.. وأكثر من هذا أيضاً: في كيفية استجابة مؤيديه والمدافعين عنه للقواعد والضرورات التي تنزع المخاوف والقيود والتحفظات من طريقه وتجعله رافعة للجديد الذي تلتف حوله القلوب والعقول، وإيذانا لا مرد له بظهور فجر جديد ... وليس قيدا او عبئا أو وسيلة للوصاية تبتلع الحراك الاجتماعي والسياسي أو تخضعه للفلترة الحزبية والفئوية لتجعله جزءا من أزمة المجتمع المستعصية وليس حلا لها !

.. وأنا أعني بهذه القواعد والضرورات : قواعد العمل العام، التي تحدث انعطافا عميقا حقيقيا في المزاج العام يحفز الناس للخروج ذرافات ووحدانا من الموات .. للحياة ، ومن اليأس للرجاء ، ومن الخنوع والعطالة .. للمبادرة الطوعية والمسؤولية التاريخية .. وسوف يكون من حقي التحذير من مغبة التفريط بهذه القواعد والاستخفاف فيها لأي سبب. ومن حق القارئ أيضاً توضيح ماهيتها بشيء من التفصيل!

إن إعلان دمشق (16-10-2005) لا يشذ عن المشروطية بهذه القواعد . وموقفه منها يضعه على مفترق الطرق بين هذا الاحتمال أو المسار .. أو ذاك . وهذا يتوقف على كيفية النظر إليه والتعاطي به والإبحار بواسطته (خصوصا من طرف الذين يلتفون حوله ويدعون تأييده) .. كل هذا في ضوء الضرورات والقواعد المشار إليها وطبقا لإيقاعها الذي يخص مجمل المجتمع ولحظته التاريخية .

وكي أوضح أهمية هذه الناحية الأخيرة ومركزيتها الشديدة في تقرير مصير الإعلان ، ينبغي التحرر أولا من إشكالية صاحبت الإعلان منذ لحظته الأولى، وغالبا ما شكلت السحابة المضللة حول قيمة الإعلان ومصيره.. وأنا أعني بها بعض الالتباسات الفكرية والسياسية التي تخللت نص الإعلان ، وبعض الآليات التي صاحبت إعداده وإشهاره ..!؟

.. فغير خاف أن هذه وتلك قد أدت لكثير من مواقف الشد والجذب، بل ردود الأفعال الموالية أو المعارضة للإعلان . وهذه الالتباسات والمواقف ليست موضع حديثي في حد ذاتها لأنها لا تؤلف –في اعتقادي- مصدر القوة أو الضعف الحقيقيين اللذين يحددان قيمة الإعلان ويقرران مصيره . على العكس فأنا أعتقد أن تثمين هذه المواقف جميعاً انطلاقا من قيمتها الإيجابية وصفتها الوطنية وشراكتها الحقيقية في تأدية الاستحقاق الديمقراطي. وأن تحويل (الإعلان) إلى وسيلة ناجعة لإطلاق هذه العملية الواسعة وجعلها تجتذب ليس المؤيدين والمعارضين فقط ، بل الصامتين.. والمترددين .. والمهمشين أيضاً، للالتفاف حول عملية التغيير المدني الديمقراطي السلمي ، وليس مجرد الالتفاف حول الإعلان بحد ذاته أو تحويله إلى (صنم) لاستقطاب المؤيدين من أبناء القبيلة فقط .. أقول أن كل هذا كان يشكل قيمة الإعلان الحقيقية . لهذا فإني أحصر حديثي في كشف (الطريقة الخاطئة) التي لا تخص الإعلان بحد ذاته بل تخص بعض المحتمين بعباءته التي أدعي أنها أساءت وما تزال لقيمة الإعلان وقضيته عبر التعاطي به (ومع المواقف الخلافية جميعاً) بمعزل عن غايته الأصلية وضرورته التاريخية، وبمعزل عن قواعد العمل العام والحراك الاجتماعي والسياسي عموما !

ما أريد قوله أن هذه الطريقة شكلت أساساً مفتعلاً لجعل الإعلان هدفاً بذاته ، وجعل الانقسام حوله يحل محل الانقسام الأصلي حيال الواقع الموضوعي (أي بين إدامة الاستبداد من جهة .. وتغييره المدني الديمقراطي السلمي من جهة أخرى) . وهذا يعني ببسيط العبارة ابتلاع الغاية المرجوة من وراء الإعلان . ووضعه موضع التعارض مع قواعد العمل العام التي تحقق له النماء والحياة انطلاقا من غايته وضرورته التاريخية. لهذا أردت تخصيص هذه الطريقة بحديثي بمعزل عن الالتباسات والمواقف ، الموالية أو المناوئة ، التي لا أميل للتهويل بشأنها ولا التفريط بقيمتها الوطنية والديمقراطية أيضاً!

ولابد من تأكيد أن حديثي ينطلق من أرضية الإعلان .. وغايته .. وضرورته التاريخية التي تصون كل حبة جهد على طريق التغيير المدني السلمي الديمقراطي . علماً أن هذا لن ينجي حديثي من الطعن والتشكيك ، بل العض ، من طرف هذه الطريقة (وأصحابها) التي لا توفر أحداً أو ترعى ذمة . لهذا يقتضي التصدي لهذه الطريقة وكشف أخطارها. خصوصا أنها تخص نفرا محدودا من المحتمين بعباءة الإعلان .. وليس أتباعه جميعا الذين يضمون الكثير من المناضلين وأصحاب النزاهة والميراث الوطني والأخلاقي. غير أن خطر هذه (الطريقة الفاسدة) يتأتى من حداثة الخيار الديمقراطي الذي يحبو في أطواره الأولى ، وتحف به أوضاع شديدة التعقيد والألغام والتباس رؤية .. بالتالي فإن هذا (الخيار) هو أحوج ما يكون للوضوح واستقامة التفكير التي تصلب عودة وتنضج قواعده وتنجيه الخنق والابتلاع . خصوصا من طرف محبيه الكاذبين من الباعة الصغار الذين سارعوا لضم الديمقراطية (وضم إعلان دمشق وأحزابه الوطنية) لمعروضاتهم في ربع الساعة الأخير بهدف انقاد بقالياتهم من الإفلاس بعد بوار بضاعتهم ومشروعاتهم الفئوية والإيديولوجية!؟

إن أفدح الأخطار التي تصيب خيار الديمقراطية .. وإعلان دمشق .. وقواه الوطنية على التوالي ، تتمثل في سعي هذه الطريقة وأتباعها لإفساد هذه الأقانيم (أو الضرورات) الثلاثة مجتمعة ، وجعلها مستحيلة التحقيق أو فريسة المآرب الضيقة الأنانية بواسطة تعميم هذا الإفساد على أوسع دائرة ممكنة تحت حجة الغيرة على هذه الأقانيم ، ووضعها تحت الوصاية المؤدية لسوق كل واحدة منها لابتلاع التي سبقتها والانقلاب عليها وجعلها تنآى عن وظيفتها وأهدافها الحقيقة . وكل هذا يسير جرياً على عادة هؤلاء في إفساد المشروعات التاريخية جميعاً، وتحويل حقوق شعوبهم إلى شعارات لفظية ومنظومات مذهبية ، وتحويل هذه الأخيرة إلى (أصنام مقدسة) تعوزها الحياة والحرية وإمكانية التحقيق .. تمهيدا لابتلاع هذا جميعاً !؟

.. لكل هذا ، ومن منطلق الدفاع عن هذه الضرورات جميعاً، وتقدير كل منها بقدره ومكانه ووظيفته الحقيقية .. كانت ضرورة التصدي لهذه الطريقة الفاسدة ، وضرورة التدقيق في أولويات العمل الوطني الديمقراطي انطلاقا من ضرورته التاريخية وقواعده الصارمة ، وهذا موضوع حلقتي القادمة.