والعطار الأنظمة العسكرية، كانت الحركة الإسلامية في سورية حتى أوائل الستينيات أهم الحركات الإسلامية في العالم، ومن أهم الحركات السياسية والاجتماعية بعامة، بل إنها تفوقت سياسيا وحركيا على الجماعة الأم في مصر حتى في عهد حسن البنا. ويمكن القول إن المناخ السياسي الليبرالي الذي كان سائدا في سورية وفي الوطن العربي ساهم في قيام حركة إسلامية متقدمة سياسيا وفكريا واجتماعيا حتى بمعايير عام 2006، وفي الوقت نفسه فإن عسكرة الحياة السياسية في الوطن العربي أدت إلى كارثة اجتماعية وثقافية وانحدار الحياة السياسية إلى الحضيض، وامتد ذلك إلى الدول التي لم تشملها الانقلابات العسكرية، وشمل المجتمعات والأحزاب والحركات السياسية التي عانت من هذه الأنظمة العسكرية، بل إن الكارثة التي ألحقتها الأنظمة السياسية بالحركات السياسية لم تكن أساسا في السجن والحظر والملاحقة ولكن في تغيير بنيتها الثقافية والفكرية وتركيبتها الاجتماعية.
وتقدم أطروحة يوهان راسنر عن الحركة الإسلامية في سورية في الخمسينيات والستينيات خريطة اجتماعية وثقافية للحركة الإسلامية تدل على موقع متقدم في المجتمع السوري وفي العمل السياسي والعام.

فقد كانت قيادات الحركة الإسلامية في سورية قائمة على مجموعة من القيادات العلمية والثقافية والمجتمعية في مدنها وبيئتها السياسية، مثل مصطفى السباعي، أحد أهم أساتذة الشريعة والقانون في سورية، والذي ينتمي إلى عائلة من العلماء في حمص، وعمر بهاء الدين الأميري، الشاعر والدبلوماسي العريق، ومعروف الدواليبي، محام ونائب، ورئيس البرلمان، ووزير الاقتصاد، ووزير دفاع، ورئيس وزراء منتخب، وعبدالحميد الطباع، من رجال الأعمال والقادة الاجتماعيين، ومحمد هاشم الحسيني ومحمد الدقر وسليمان العظمة وأحمد مظهر العظمة وأحمد بهجت البيطار ووحيد الحكيم وعلي الطنطاوي ومحمد آقبيق رئيس جميعة التعاون الإسلامي، وبشير العوف، السكرتير العام للإخوان المسلمين عام 1946، وعبد الوهاب الأزرق، محامٍ وقاضٍ وسكرتير البرلمان عام 1937، ونجيب باقي ومحمد المبارك، نائب ووزير وأستاذ جامعي، ومصطفى الزرقا، نائب وأستاذ الشريعة والقانون بالجامعات السورية والأردنية، وعارف الطرقجي، أستاذ الطب في الجامعة السورية، وغيرهم كثير من العلماء والمفكرين والقادة المؤثرين وذوي الهيئة والاعتبار في المجتمع والدولة.
وأوصلت الحركة الإسلامية منذ أوائل الأربعينيات عددا من النواب في كل مجلس منتخب، وشاركت في الحكومات التي شكلت، وتحالفت مع القوى والشخصيات السياسية المختلفة، وكانت دائما تقيم تحالفات سياسية وانتخابية مع قيادات مسيحية، مثل فارس الخوري وجورج شلهوب وقسطنطين منصة.

وكانت موجة العلمانية والتغريب التي هيمنت على سورية والمنطقة عامل قوة في تحديث الإخوان وتطوير قدراتهم ووسائل عملهم برغم أنهم كانوا يعارضون بقوة هذه الموجة وبخاصة في طابعها الأخلاقي ومخالفة الشريعة الإسلامية، ولكنهم وظفوا فرصها المتاحة في التوجه إلى طبقات المجتمع المتعلمة وبخاصة الوسطى وتشكيل قاعدة من التحالفات والبرامج السياسية والاجتماعية.
وفي رسالة بعثها مصطفى السباعي إلى حسن البنا عام 1947 وصف العملية الانتخابية التي جرت ونجح فيها عدد من نواب الإخوان بأنها تمثل أهمية خاصة لأن الإخوان المسلمين بتلك الانتخابات كانوا أول من طرح الفكرة الإسلامية بصفة قانونية أمام برلمان منتخب انتخابا شرعيا، وأن الإخوان المسلمين يمكن أن يتقدموا بفكرتهم وبرامجهم إلى المجتمع على أساس الانتخابات.
وشارك الإخوان المسلمون في حكومة خالد العظم عام 1950 من خلال معروف الدواليبي (وزير الاقتصاد)، وشاركوا في معظم التطورات المهمة التي وقعت في سورية، مثل القضية الفلسطينية، وتطوير سياسة للحياد بين الدول العظمى.
وكان الجيش هو الخصم الأساسي للإخوان المسلمين بدءا بانقلاب حسني الزعيم ثم أديب الشيشكلي، وقد انسحبوا من العمل السياسي إثر انتهاء فترة حكم أديب الشيشكلي عام 1954، فلم يشاركوا في الانتخابات العامة، وظلوا على نحو عام يعبرون عن مصالح وتطلعات الطبقة الوسطى.