قدم القاضي البلجيكي سيرج برامرتيس رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري اول تقاريره الى مجلس الامن الدولي حول مجريات التحقيق منذ ا ن خلف القاضي السابق - الالماني ديتليف ميليس - في رئاسة اللجنة.واذا كان اول تقارير برامرتيس قد استقبل بالكثير من الاعجاب والارتياح والتقدير، من جانب كل الاطراف، بما فيها سوريا والقوى اللبنانية المناوئة والمؤيدة لها، والاطراف الدولية المعنية بالتطورات في لبنان بمن فيها فرنسا، فإنه لم يكن مصادفة ان تتردد تعبيرات مثل «درجة عالية من المهنية والتقدم» و«الواقعية والموضوعية»، و«الارتياح والاعجاب» في وصف اول تقارير برامرتيس، فإن السؤال الذي يفرض نفسه يدور حول السبب وراء اختلاف اسلوب استقبال تقرير برامرتيس وبشكل حاد عن الانتقاد والهجوم والتشكيك الذي قوبلت به تقارير ديتليف ميليس؟! فهل المسألة مسألة شخصية ترتبط بشخصية ميليس وبرامرتيس، ام انها بالفعل مهنية، ام انها في الحقيقة سياسية في جوهرها وان كانت تأخذ صورا اخرى في التعبير عن نفسها. على اية حال فإنه يمكن الاشارة الى ما يلي باختصار شديد:

٭ اولا: انه من المعروف على نطاق واسع ان المحقق الدولي السابق ديتليف ميليس هو على المستوى المهني من افضل القضاة الالمان، وان له باعا طويلا في عمليات التحقيق في القضايا الدولية، بما فيها قضايا التفجيرات ومحاولات الاغتيال، وذلك من واقع خبرته السابقة، غير ان الظروف التي تولى فيها رئاسة لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري كانت في مجملها ظروفا مناوئة لسوريا سواء على الصعيد اللبناني او الدولي، ومن ثم فإنه لم يكن غريبا ان تكون بعض التحفظات السورية حيال ميليس، ثم جاءت الخلافات بين ميليس ودمشق حول اسلوب عمل لجنة التحقيق التي يرأسها، وحول اماكن عمل اللجنة، وحول استجواب بعض القيادات السورية وحول العلاقة القانونية بين اللجنة وسوريا، جاءت هذه كلها لتزيد من الفجوة، اوعلى الاقل تعمق من الشكوك المتبادلة بين القيادات السورية وبين ميليس، وهو ما وصل الى ذروته في التقارير التي قدمها الى مجلس الامن الدولي، والتي تضمنت تلميحات بشأن اسلوب تعامل بعض المسؤولين السوريين مع لجنة ميليس والايحاء بأن بعضهم خدع اللجنة بشكل او بآخر. وفي ظل مثل هذا المناخ تعرضت لجنة ميليس الى هجوم وانتقادات شديدة من جانب سوريا والقوى اللبنانية المؤيدة لها حيث جرت اتهام ميليس ولجنته بتسييس التحقيق وبالتحرك على اساس فرضيات بل واحكام مسبقة ضد سوريا بشكل او بآخر. ومن المؤكد ان مثل هذا المناخ، وبغض النظر عن مدى صحته او واقعيته لا يمكن الا ان يعرقل عمل اللجنة ويحول دون ان تمضي في تحقيقاتها بشكل سلس، ولذا فإنه لم يكن هناك مفر من ان يترك ميليس رئاسة لجنة التحقيق الدولية لانه هو نفسه استشعر صعوبة استمراره بشكل مريح في مهمته وان اية نتائج سيتوصل اليها ستكون موضع شكوك وتأويل حتى ولو كانت موضوعية مائة بالمائة.

٭ ثانيا: انه مع الوضع في الاعتبار أن دمشق رحبت بترك ميليس لرئاسة لجنة التحقيق الدولية، فإنها حرصت كذلك على ان تجعل من ذلك فرصة، او مناسبة للتأكيد مرة اخرى على استعدادها للتعاون مع لجنة التحقيق الدولية، وعلى رؤيتها التي طالما أكدت عليها والمتمثلة في حرصها على اظهار الحقيقة في اغتيال الحريري، لأن ذلك سيصب - في النهاية - في مصلحتها، وانها تأمل في تعاون اكبر مع لجنة التحقيق في ظل رئاسة برامرتيس لها. وبالفعل، فإن القاضي البلجيكي برامرتيس كان شخصية مختلفة ولعله استفاد من تجربة ميليس وما واجهه من صعوبات. ومن ثم فإنه لم يكن مصادفة ان يتجنب وسائل الاعلام كثيرا وان يحرص على سرية التحقيق. وهذه نقطة شديدة الاهمية خاصة بالنسبة لسوريا التي تمر علاقتها مع لبنان بمرحلة من التقلصات والمشكلات متعددة الجوانب. واذا كان قرار برامرتيس فرض سرية على عمليات التحقيق قد اتاح له قدرا اكبر من حرية الحركة والاتصال مع العديد من الاطراف اللبنانية والسورية والدولية، فإن ذلك اراح الكثيرين وان كان قد حرم وسائل الاعلام من مادة تستغلها في تأجيج الخلافات او في تأويل المواقف او لخدمة منطلقاتها وتوجهاتها بغض النظر عن المصالح اللبنانية والسورية.وقد وصل الامر غايته بعد ان قدم برامرتيس اول تقاريره الى مجلس الامن الدولي قبل ايام دون تسريب لمسودات ودون مؤتمرات صحفية. وحسنا فعلت الدول الاعضاء في مجلس الامن الدولي بالالتزام حتى الآن بسرية التقرير مع الافصاح فقط عن القدر الذي اراد برامرتيس ان يعلنه، والذي يتضمن عبارات مختارة بعناية وتخدم لجنة التحقيق في عملها من ناحية، كما انها تهيئ لمزيد من التعاون بين سوريا واللجنة من ناحية ثانية حيث اعلن برامرتيس ان سوريا تعاونت مع اللجنة وانه يأمل في ان يستمر ذلك وبما يخدم عمل اللجنة. وهذه صيغة مختلفة عن ايحاء ميليس بعدم تعاون دمشق معه من قبل بشكل كاف.

٭ ثالثا: انه بالنظر لان التحقيق في قضية اغتيال الحريري في 14 فبراير 2005 هو قضية ذات جوانب سياسية محلية - لبنانية - واقليمية ودولية، فإنه من الطبيعي والمؤكد ان التعامل معها لا يتوقف على مجرد شخصية او خفة دم رئيس لجنة التحقيق، او مدى القبول الشخصي له من عدمه. لان الامر - في النهاية - يرتبط بمصالح سوريا وبمواقف معقدة ومتداخلة تربطها بالساحة اللبنانية وبالتطورات الاقليمية وبالعلاقات مع اطراف دولية اخرى. ومن هنا فإن ما يمكن تسميته بالانفراج في الموقف السوري او بالاحرى بالمؤشرات الايجابية في العلاقات بين دمشق وبيروت لا تعود الى مجرد حلول برامرتيس محل ميليس، ولكنها تعود في الواقع الى تطورات اخرى جرت على الارض خلال الشهور الماضية وقد انعكست هذه التطورات على الموقف من برامرتيس ولجنته.ولعل من ابرز هذه التطورات انه بغض النظر عما صاحب خروج عبدالحليم خدام النائب السابق للرئيس السوري وانضمامه الى المعارضة السورية وتصريحاته ذات الصلة بلبنان واغتيال الحريري - بالرغم انه كان في السلطة وجزءا منها عند حدوث عملية الاغتيال - فإن التغيير الوزاري السوري الذي اعقب ذلك، وما تضمنه من تولي وليد المعلم منصب وزير الخارجية السوري وكان هو المسؤول عن الاتصالات مع بيروت - حتى في ذروة الخلافات بين دمشق وبينها - قد فتح المجال امام امكانية السير بالعلاقات السورية الى دروب تصل بها الى درجة أعلى من الالتقاء والتوافق الضروري بين الدولتين الشقيقتين واللتين طالما ربطت بينهما علاقات خاصة.يضاف الى ذلك أن جهودا واتصالات ومساعي عديدة جرت بين سوريا ولبنان خلال الشهور الماضية، عربية وغير عربية، وقد نجحت هذه الجهود في الحد من درجة الانتقاد والحملات المتبادلة بين تيار المستقبل وبين دمشق من ناحية، وفي تمهيد الطريق امام القبول السوري بعلاقات دبلوماسية بين دمشق وبيروت وهو أحد المطالب اللبنانية مع التأكيد على وقف التدخل السوري في الشؤون الداخلية اللبنانية من ناحية ثانية.من جانب آخر، فإنه بغض النظر عن استمرار الانتقادات المتبادلة بين وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والقيادة السورية فإن الحوار الوطني اللبناني الذي بدأ في اوائل الشهر الجاري، والذي ضم مختلف القوى اللبنانية المؤثرة، سواء المؤيدة أو المناوئة لسوريا، كان بمثابة خطوة اخرى لدفع العلاقات اللبنانية السورية على طريق التحسن. ليس فقط لأن دمشق رحبت من جانبها بالحوار، مع تأكيدها على تمنياتها له بالنجاح، وبعدم التدخل في الشؤون اللبنانية ولكن ايضا لأن الفرقاء اللبنانيين اتفقوا على اهمية وضرورة العمل على تحسين العلاقات اللبنانية - السورية ودفعها نحو ما يفيد الدولتين السورية واللبنانية في كل المجالات من ناحية، الى جانب الاتفاق على استمرار التحقيق الدولي في اغتيال الحريري وتقديم مرتكبي الحادث الى محكمة ذات طابع دولي من ناحية اخرى. ومن ثم فإنه حدث تعديل في مواقف كل الاطراف لبنانية وسورية نحو تجاوز الخلافات التي امتدت منذ ما قبل اغتيال الحريري وتصاعدت بعدها. وكانت التصريحات السورية حول لبنانية مزارع شبعا عنصرا آخر ذا نتائج في هذا المجال

٭ رابعا: انه في الوقت الذي تحدث فيه برامرتيس عن التقدم في التحقيق في اغتيال الحريري، وعن خيوط جديدة في التحقيق واسقاط خيوط سابقة وانه سيتم التوصل الى تقدم حول كيفية حدوث عملية الاغتيال والاطراف «المحترفة» التي شاركت فيها، وهي كلها اشارات ذات دلالة، فإن ما اعلنه الرئيس السوري بشار الاسد من استعداد للالتقاء مع لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري للاجابة على اية اسئلة للجنة ليس على سبيل التحقيق والاستجواب، ولكن على سبيل الاستنارة والاستماع لوجهة النظر السورية، وان ذلك يشمل الرئيس بشار ونائبة فاروق الشرع، وان القيادة السورية مستعدة لتقديم من يثبت تورطه في تلك الجريمة للمحاكمة، هو في الواقع تطور ايجابي ومهم في الموقف السوري خاصة اذا قورن ذلك بالرفض القاطع للتعامل على هذا النحو مع ديتليف ميليس، الرئيس السابق للجنة التحقيق نظرا للاسباب السابق الاشارة اليها. ومع عدم اغفال هذا التطور وعدم فصله عن تطورات اخرى جرت على المستوى الاقليمي في الآونة الاخيرة، وقد سبقت الاشارة الى ما يتصل منها بالعلاقات السورية اللبنانية، وهناك ما يتصل بايران وحزب الله اللبناني وغيرها، فإنه من المأمول ان ينجح برامرتيس في مهمته وان يصل بالفعل الى الحقيقة وراء عملية اغتيال الحريري وان يقدم مرتكبو الحادث للمحاكمة، لعل ذلك يفتح الطريق امام علاقات اكثر نضوجا، واكثر واقعية واستقرارا وازدهارا ايضا بين الدولتين السورية واللبنانية. ولا يضير ان يكون بينهما علاقات خاصة تحقق المصالح المشتركة والمتبادلة لهما وللمنطقة، بعيدا عن هواجس الهيمنة او محاولات الاملاء او الفرض لدى هذا الطرف او ذاك وهو ما أكد عليه الطرفان، ولا يتبقى سوى ترجمته في خطوات عملية تبني وتعزز الثقة المتبادلة وتزيد رقعتها بامتداد الشام كله.