شغل موضوع "سوريا بين الاصلاح والتغيير" تفكير كثير من الباحثين العرب والاجانب. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر فولكر بيرتس ورايموند هاينيبوش، وبرهان غليون وغيرهم. وقام الباحث السوري رضوان زيادة بجمع أهم هذه الدراسات ومناقشتها.

لم تعد قضية الاصلاح في العالم العربي مرتبطة برغبات أو احتياجات بحتة، بل اصبحت بعد 11 ايلول 2001 مطلباً دولياً. وهذا ما نشّط بعض الباحثين والناشطين السياسيين العرب، الذين بُحّت أصواتهم بالمطالبة بحقوق الانسان العربي، وتحقيق الديموقراطية، لمنح مطالبهم شرعية دولية وداخلية في الوقت نفسه.

استغرق الجدل العربي حول الاصلاح – السياسي بالدرجة الاولى – ردحاً من الزمن، ولم يتحقق منه حتى الآن الا اليسير.

قراءة تجربة الاصلاح في حدود كل دولة على حدة تعمق الرؤية؛ اذ تضع التجربة السياسية لذلك البلد تحت مجهر الباحثين والاختصاصيين لدراستها. وظلت سوريا لفترة طويلة عصّية على البحث، مما جعل حظها من الدراسة زهيداً نسبياً. ويرجع بعضهم ذلك الى انغلاقها النسبي وموقف نظامها الذي لم يكن يتقبل أي نقد. وغالباً ما كانت الاستقراءات حول سوريا منقوصة نظراً الى إفتقارها للمعلومات الكاملة او الدقيقة. الا أن سوريا بدأت تتجاوز هذه المرحلة الى حد ما بعد انتشار الانترنت والانفتاح الاعلامي النسبي. ولكن الاعلام الرسمي ظل متحفظاً يفتقر الى كثير من المنهجية العلمية.

مع مجيء الرئيس بشار الاسد الى السلطة في حزيران 2000 برزت على السطح تدريجاً نخبة من المثقفين والباحثين السوريين الذين بتنا نتابع تعليقاتهم وتقويماتهم الجريئة في الصحافة اللبنانية والعربية، وعلى شاشة الانترنت. هذه النخبة بدأت تتكلم بجرأة بنَفَس مختلف، وتحلل الامور غالباً بطريقة قد لا تتفق بالضرورة مع رؤية النظام السياسية.

وهذه الظاهرة الصحية هي ما أطلقنا عليه ظاهرة "ربيع دمشق". ورغم اغلاق المنتديات الثقافية، والنكسة التي اصيبت بها هذه الظاهرة بسبب مواقف الحرس القديم، الا أنها خرجت عن طوق الحصار. وباتت هذه النخبة تتحدث بنَفَس جديد، وتحلل الامور بطريقة قد لا تتفق بالضرورة مع طروحات الاعلام الرسمي السياسية.

بيد أن الروح العلمية والتراكم البحثي المنهجي، حتى لدى الطليعة التي تجرأت على طرح الامور بصراحة، بقيا ضئيلين بحكم حداثة التجربة السورية في ممارسة حرية الرأي بعد عقود طويلة من الغياب. ولعل اندفاعة المعارضة في طرح آرائها، بعد طول سبات قسري، جعلها تفتقر الى التأني، والى المنهجية المعرفية التي كانت بدورها تحتاج الى خبرة وصقل. بيد أن اشتراك بعض الباحثين الغربيين المشهود لهم بالموضوعية مثل بيرتيس وهاينيبوش، وبعض الباحثين العرب او السوريين المقيمين في الخارج من أمثال غليون وجوبيجاتي، قد أغنى هذه التجربة السورية الناهضة.

المسألة الاساسية التي بدأ النقاش حولها هي ما اذا كنا نريد الاصلاح الشامل أم التغيير. ظلت هذه المناقشة غير محسومة كما ظلت النقاشات محصورة ضمن نطاق ضيق من المثقفين على اختلاف مشاربهم، تعبر عن حالة من الاضطراب الفكري التي يعيشها جانب من الرأي العام المثقف المشدود ما بين الأمل في التغيير (في مجال الانفتاح السياسي والاقتصادي) والسماح بحرية الرأي، واليأس من اقتلاع أوضاع استمرت أكثر من 40 عاماً.

راهن الفريق الاول على الانفراج النسبي في عهد الرئيس الأسد الابن. بيد أن حماسة هذا الفريق سرعان ما أصيبت بصدمة مع اغلاق المنتديات الثقافية واعتقال بعض المعارضين. كما تبين له ان الاصلاح والتغيير يقتصران على بعض الاجراءات الاقتصادية الانفتاحية التي كان لا بد منها. هذا بالاضافة الى بعض التعديلات في الانظمة والقوانين التي لا ترقى الى مستوى الاصلاح السياسي الشامل.

ويراهن فريق آخر، أكثر اعتدالاً وواقعية، اليوم على الاصلاح التدريجي. ويرى هذا الفريق أن سوريا تواجه الآن ضغوطاً خارجية، وبالتالي يجب أن يكون سقف المطالب معتدلاً. ويرفض هذا الفريق أي دعم خارجي، ويتطلع الى اصلاح تدريجي بخطى جادة وحثيثة. كما يتطلع الى صدور قانون الاحزاب، والى بعض الاجراءات الاصلاحية الاخرى، حتى تكتسب معارضتهم طابع الشرعية. ويراهن هذا الفريق ايضاً على النضال بالوسائل السلمية الديموقراطية. إنهم يرون في التعددية الحقيقية الوسيلة المثلى للتغيير عبر ممارسة المعارضة الشرعية.