عودة رئيس الجمهورية اللبنانية إلى الشاشة التلفزيونية لها معان ودلالات. فهو بعد كل الهجمات التي استهدفته كي تطيح به، لم يطلّ علينا مدافعاً بل مهاجماً: «لازم يفلوا كلهم إذا بدي فلّ». وقد فتح النار فخامته على رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع، قائلاً «نحن نعلم تاريخه»، مذكراً إياه بالجرائم التي أدين بها. وباح إميل لحود، ببعض ما يعرف عن الزحف الجنبلاطي باتجاه السوريين أثناء عزهم. وقال عن أعداء سوريا اليوم «انهم كانوا يزورون سوريا أكثر مني»، وهذا كله صحيح، لسوء الحظ . ورغم ان كلام رئيس الجمهورية لم يكن كله مما تصدقه العقول، خاصة في ما يتعلق بالرئيس رفيق الحريري، إلا أن احداً لا يستطيع ان ينكر، بأن الشوكة السورية تعود لتقوى في لبنان، رغم أنف الكارهين. ورويداً رويدا، ترجع الرؤوس التي اختبأت طوال الفترة الماضية، لتذكرنا، بأن غيابها كان مجرد استراحة محارب.

وها هو الحوار الوطني اللبناني، الذي يستعد لجولة جديدة، لم يجد بداً لحل مشكلات أساسية عالقة مثل مزارع شبعا، أو حتى زحزحة الرئيس لحود عن كرسيه سوى العودة إلى الشقيقة سوريا، مباشره أو عبر الأشقاء العرب. وعاجلاً أم آجلاً، سيعود رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة متعالياً على الجرح، وقد أهين بما لا يليق حين وصفه الرئيس السوري بأنه «عبد مأمور لعبد مأمور»، ليناقش مع الجيران الألداء مسائل في صميم الأزمة اللبنانية، التي يفترض ان لا علاقة لهم بها، بعد الاستقلال المجيد، بحسب ما يكرر الاستقلاليون.

ولكن ليس خافياً أن سوريا، يوم خرجت، تركت وراءها في لبنان ممثلاً في رئاسة الجمهورية، وأحزاباً لها قواعد شعبية، وميليشات مسلحة فلسطينية تتبختر على عيون الأشهاد، وترفض ما هو أقل من حوار ومفاوضات، كي تتنازل عن ذخيرتها. وهكذا عليك كلما أردت أن تقلع شوكة، أن تعود إلى الأشقاء، لتتفاوض معهم. والأشقاء يعودون ليفرضوا شروطهم. وليست مصادفة انه قبل البدء بالجولة الأولى للحوار، تحدث اكثر من ممثل لحزب الله عن التمسك بسلاح المقاومة، وانهم ذاهبون إلى الحوار من موقع «قوة». صحيح أن ما حدث على الطاولة أرضى الجميع، ولكن ببساطة لأنه ليس من الممكن أفضل مما كان. فالعيد الثالث لدخول الأميركيين إلى العراق أصبح اقرب إلى الكابوس، والحالة العراقية فضيحة دولية للإمبراطورية العظمى، في حين أن صورتها وبسبب فيض الدماء الذي يسيل هناك، باتت أقرب الى صورة «دراكولا» في أفلام الرعب. وبما أن أحداً لا يريد للنظام السوري أن يرحل بما في ذلك إسرائيل، وكل المنغصات اللبنانية حلها على ما يبدو بيد الشقيقة، التي جاءها النصر من حماس في فلسطين، ومن العنجهية النووية الإيرانية، والجنون العراقي المستفيض، وقلة حيلة الأكثرية الحاكمة في لبنان، وقبلها جميعاً بهوت الهالة الأميركية، وهكذا، فإن العضلات السورية تعود لتنمو بما لم يكن ليتصوره اللبناني أو حتى الأميركاني، قبل عام، يوم كانت فلول الجيش السوري تسرع الخطى هاربة من الوحل اللبناني.

لكن الدنيا دولاب، ويبدو انه يدور بسرعة في عصر الصواريخ والشبكات الكونية. وها هو عمر كرامي الذي أسقطته من علياء رئاسة الوزارة قوى 14 آذار، منذ ما يقارب السنة فقط، حيث بدا حلفاء سوريا، لحظتها وكأن هالتهم قد ذوت الى الأبد، يقول منذ أيام: قضيتنا هي مجرد وقت، ولا بد من الاستمرار في الحوار لكسب هذا الوقت. فالرجل الذي أخطأ الحسابات تكراراً، لا يقرأ هذه المرة في الفنجان وإنما في التحولات.

واضح أن كثيرين، وخاصة المتعاطفين مع «الحرية، والسيادة، والاستقلال» لا يحبون رؤية الأسهم السورية تعود لترتفع في البورصة اللبنانية وبرضى أو بتساهل كل الأطرف بمن فيهم 14 آذار، إلا ان لعبة عض الأصابع أثبتت ان سنة الاغتيالات أرهقت الزعماء اللبنانيين وشردتهم، وحصدت أرواحهم، بما لم يعد يُحتمل. والركود الاقتصادي جعل الأكثرية الموجودة في الحكم مشلولة في مواجهة جحافل المتضررين والصارخين، بالحل أو الخراب. وبلد فيه من يتظاهر ويطالب ويماحك، ليس كبلد لا تمشي فيه التظاهرات من غير أمر رسمي. وهكذا فثمة في كل بلد نقاط ضعف بمقدور من يريد ان يستغلها ساعة العسر، أن يفعل. وفي بلد ديمقراطي، ولو هشاً على الطريقة اللبنانية، للناس كلمتهم، وللفقر سطوته، وللأحزاب والفرقاء وجودهم.

وليس عبثاً أن قوى 14 آذار في غالبيتهم كانوا حلفاء سوريا وقوى 8 آذار هم حلفاء سوريا، ويدور اللبنانيون، ويتمردون ويتظاهرون، ولكن لا بد من سوريا وإن طال الزمن.

يبقى ان اللبنانيين، في وضعهم الحالي، حيث تعلو في بورصتهم الوطنية أسهم سوريا مرة وأميركا مرة أخرى، لا يختلفون كثيراً عن أشقائهم الخليجيين الذين يراهنون ابدا على الربح السريع، والعصا السحرية، لحل مشاكلهم التاريخية وحتى الوجودية. وقيل أثناء الحرب اللعينة «من لم يمت بالقصف مات بغيره»، لنكتشف أن المواطنين الصغار أو بلغة أخرى، أقزام المستثمرين، الذين حولوا أنفسهم الى أتباع لكبار الزعماء، باتوا ينتظرون أخبار «الحوار الوطني» ليفهموا أين تذهب الدفة، وكيف تدار اللعبة بدون جدوى. ولبنان الصغير اليوم يمشي على حبل رفيع، في ما بهلوانات السياسة، الذين اجادوا ألعاب السيرك بمختلف أنماطها، يحاولون التكيف كي لا ينزلقوا إلى الهاوية. والحق ان الحبل رفيع وممض، خاصة لأصحاب السوابق الذين يثقلهم تاريخ من الفساد والنهب والجريمة، وما أكثرهم، حتى بات أكثر اللبنانيين تحزباً وتعصباً لفئته وزعيمه وطائفته، يختلف معك على كل شيء، ويطاوعك قانعاً حين ترفضهم جميعاً، وتتمنى زوالهم عن بكرة أبيهم.