د. ثائر دوري

يوماً بعد يوم يتسارع اهتراء النظام العالمي فخلال وقت قصير حدثت أمور متلاحقة عرت هذا النظام من كل تذويقاته الإيديولوجية و الأخلاقية ، فكأنما التقطت صورة بالأشعة السينية لهذا النظام فبانت عظامه نخرة مهترئة ثم عرضت هذه الصورة على الجمهور الواسع فشاهد هذا الجمهور بنية هذا النظام على حقيقتها.......

فهذا النظام يتستر بأردية الليبرالية و حرية الرأي و الديمقراطية و حرية التجارة ، و يضحك بهذه الشعارات على عقول البسطاء في كل أنحاء العالم بمن فيهم شعوب المركز الإمبريالي ، الأمريكي و الأوربي . في حين أن حقيقة هذا النظام هي نقيض ذلك فليس هناك ليبرالية بل دكتاتورية . و ربما أسوا أنواع الدكتاتورية لأنها من النوع الذي لا يشعر الفرد به ، كأنواع من السرطانات تنمو ببطء دون أن تسبب ألما أو انزعاجاً للمصاب بها فيستمر يمارس حياته بشكل طبيعي و لا يكتشفها إلا في مراحلها الأخيرة عندما يكون الوقت قد فات على فعل شيء . أما في الأشكال المتخلفة من دكتاتوريات العالم الثالث فإن الفرد يشعر بها و يحس بآلامها فيقاومها محاولاً استئصالها قبل أن تستفحل ، و إن لم يستطع يحيط نفسه بغلاف سميك فيتوقف عن الاقتناع بها و يصم أذنيه عن خطابها فيُكذب كل ما تقوله و إن كان بعضه صادقاً ، و يكفر بكل ما تقوم به و إن كان بعضه لمصلحته . و ذلك كي يقاوم انتشار سرطان الدكتاتورية في جسده بانتظار أن تحين اللحظة لمناسبة لإجراء جراحة باترة له عندما يمتلك الأدوات و القوة لذلك .

إن سرطان الدكتاتورية في الغرب من النوع الأول ، الصامت ، الذي ينتشر في الجسد و يخالطه مخاطة الماء للماء فهناك يتحكم المال بوسائل الإعلام ، التي بدورها تتحكم بكل شيء ، فتشكل عقول الناس على هوى المسيطرين عليها و بطريقة ناعمة ، بحيث تبدو خيارات الأفراد و كأنها نابعة من ذواتهم في حين أن و سائل الإعلام أملت عليهم سلفا ما يجب أن يحبونه و ما عليهم أن يكرهوه ، و إلى أي مرشح يجب أن يصوتوا و ماذا يجب أن يرتدوا في الصيف و في الشتاء ، و أي برنامج تلفزيوني يجب أن يشاهدوا . حتى صار البشر كالروبوتات التي توضع بها شرائح الكترونية رقيقة تعطيها الأوامر فتتحرك بناءاً عليها ، و ربما ظن مراقب بعيد أن هذه الروبوتات تتحرك بإرادتها طالما لا تظهر أيد تحركها في حين أنها تتحرك بأوامر معطاة سلفاً ...

نبدأ من صفقة موانيء دبي التي شكلت ضربة في الصميم لايديولوجية ما يسمى "بالعولمة و حرية الأسواق" . فرغم أن قوانين العولمة الحالية تمت صياغتها من قبل سادة النظام العالمي و على رأسهم الأمريكان لتحقق مصالحهم . فتحت شعار حرية التجارة طلبوا من البلدان النامية أن تفتح أسواقها ، و بحجة التنافسية و احترام قوانين السوق طلبوا من هذه الدول أن تكف عن دعم مزارعيها و صناعييها لأن هذا هو الطريق الوحيد لخلق صناعة قوية تنافسية . و استسلمت كثير من الدول لهذه الوصفة بعضها بحسن نية و أغلبها بسوء نية من الطبقة الحاكمة فيها التي تحصل على رشوات و عمولات من الدول الإمبريالية ، فكانت النتيجة كوارث و انهيارات و مجاعة و دمار في الدول التي طبقت هذه الوصفة . و لم تتجرأ كثير من هذه الدول على الصراخ من آلام هذه الوصفة كي لا تتهم بالتهمة الخطيرة ، خرق حرية التجارة ، التي صارت وصفة أساسية للتحضر و الدخول في نادي الدول الديمقراطية !! و إذا حدث و اشتكت بعض هذه الدول بصوت خفيض من كوارث هذه الوصفة ، أجابها البنك الدولي إن أغلب الأدوية مر الطعم حين تناولها لكن بدون هذا الدواء لن يشفى البدن و بالتالي فعليها أن تتجرع الدواء و لو كان مر الطعم كالعلقم !!

لكن الحقيقة ليست كذلك فربة العولمة ، أمريكا ، فرضت حماية على صناعتها من الصلب لأن الأوربيين أكثر تنافسية منها و دعمت و تدعم مزارعيها بمليارات الدولارات سنوياً .لكن هذه القضايا لم تحظ بالاهتمام الإعلامي الكافي بل ظلت مناقشتها في أوساط المختصين فاستطاع النظام القائم التستر على أوهام حرية التجارة حتى جاءت قضية إدارة الموانيء الأمريكية التي عرت مبدأ حرية التجارة ، فالشركة المنتمية إلى إمارة دبي فازت بالمناقصة وفق قوانين السوق ، التي تعتبر كتاب الرأسمالية المقدس ، فإذ بعش الدبابير الاحتكاري الأمريكي يستنفر و يخرب الصفقة بحجة تهديدها للأمن القومي الأمريكي . و لو أن دولة من العالم الثالث فعلت نفس الأمر لهددها البنك الدولي بالعقوبات و لاعتبر نظامها نظاماً توليتاريا يتحكم بالاقتصاد . لكنها أمريكا ..

و خلال قصة شركة موانيء دبي كانت هناك قصة فوز حماس بالانتخابات الفلسطينية ، حيث قامت قيامة الغرب على النحو الذي شاهده و عرفه العالم و كأن لسان حاله يقول . لكم حرية انتخاب من لا يعارض مصالحنا فقط ، أي أنها ديمقراطية " ون واي ". و تعرت مقولة الديمقراطية الغربية . كما تعرى مبدأ حرية التجارة الحرة .

ثم جاء دور " حرية التعبير المقدسة في الغرب " فبالصدفة البحتة ، و صدفة خير من ألف ميعاد ، تزامنت قضية الرسوم الدانماركية ، التي دافع الغرب عنها بالقول إن حرية التعبير مصونة فيه و لو تجاوزت كل الخطوط الحمر . و هي حجة ربما كان البعض سيفكر بها و يأخذها بعين اعتباره لولا تلك الصدفة المحمودة ، بتزامن الحدث الدانماركي مع قضية المؤرخ االبريطاني ايرفينج الذي حوكم في النمسا و حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات لأنه شكك بحدوث ما يسمى بالمحرقة ، و التي هي حدث تاريخي قريب يجب أن يخضع للتدقيق و الفحص العلمي . و بان زيف ما يسمى " بحرية التعبير المقدسة " أيضاً .

و تتابعت الأحداث فالطريقة الغامضة التي غادر بها الرئيس اليوغسلافي الأسبق سلوبودان الحياة عرت هي الأخرى ما يسمى "بالعدالة الدولية " و ما يسمى بالمحاكم الدولية التي ظهرت إلى الوجود أول مرة بعد الحرب العالمية الثانية عبر ما يسمى بمحاكم نومبرغ . فقد ظهر أن هذه العدالة هي عدالة المنتصرين الأقوياء الذين يفرضون شروطهم و قوانينهم و عندما تكبلهم و لو قليلاً ينكصون عنها و يعودون للتصرف كرجال العصابات فلا يتورعون عن قتل رئيس دولة سابق في سجنه كي يتخلصوا من ورطتهم ، فقد سجنوه مدة ثلاث سنوات و لم يعودوا يعرفون ماذا سيفعلون به فقد حولهم إلى مجرمين و طلب إحضار الرئيس كلينتون و رئيس وزراء بريطانيا إلى المحكمة لأنهم قصفوا بلده أكثر من سبعين يوماً بدون تفويض من ما يسمى بمجلس الأمن !! و الحل للخروج من هذه الورطة هو التصفية على طريقة آل كابوني . و قد رأينا هذا الحل يطبق في سجن أريحا فيتواطأ البريطانيون و الأمريكان مع الصهاينة الذين شنوا غارة مدرعة على السجن فدمروا السجن و خطفوا السجناء دون أي اعتبار للاتفاقيات التي عقدوها .

منذ التحضير الأمريكي – البريطاني للعدوان على العراق يتسارع الانهيار الإيديولوجي للنظام القائم . و يتسارع انهيار مؤسسات النظام الدولي التي هي بالأصل من صنع الاقوياء فقد رأينا كيف داست بريطانيا و أمريكا على قرارات مجلس الأمن فحولته إلى مؤسسة لا قيمة لها رغم أن هذا المجلس من صنعهم و صمموه ليكون في خدمتهم و ليصون مصالحهم و كي يضفي طابعاً أخلاقيا دولياً للخطوات السياسية و العسكرية التي يقومون بها .

و بالتالي فهم من بناه و هم من دمره . ثم رأينا الانهيار الأخلاقي في سجن أبو غريب و غوانتانامو و رأينا التعذيب و امتهان كرامة البشر و الاحتجاز بدون محاكمة فسقط غطاء آخر يغطي النظام الدولي ، و هو ما يسمى بحقوق الإنسان ، و هي حقوق طالما تشدقوا بها فأسقطوا دولاً و أنظمة عبر التذرع بحمايتها . و بعدها توالت الانهيارات التي عرضنا بعضها ، من انهيار فكرة الديمقراطية التي يدعون لها و ظهور زيف "حرية التعبير المقدسة " و عودة التوأم السيامي الأمريكي – البريطاني للتصرف على حقيقته كرجل عصابات ، و هكذا عاد الشكل لينطبق على المضمون ، و ظهر الأنكلو ساكسوني حاملاً مسدسه كما أيام الغرب الأمريكي مستعداً لإطلاق النار على كل شيء حي يعيق وصوله إلى الذهب .

تقترح الحكمة السياسية الأمريكية أن يتكلم السياسيون بصوت ناعم و أن يحملوا عصا غليظة . و الصوت الناعم يعني تغليف السلب و النهب بعبارات رقيقة عن الحرية الديمقراطية و حقوق الإنسان و نشر الحضارة فإذا لم يبلعها الخصم فالعصا الغليظة جاهزة .

و قد نجحت هذه الوصفة لعقود طويلة فابتلع كثير من البسطاء الطعم إما عن قناعة أو بسبب التلويح بالعصا . أما اليوم فلم يعد هناك كلام ناعم و هذا عين ما يقترحه توماس فريدمان لحل مشكلة تأليف ما يسمى " بالحكومة العراقية" اقرأوا ما يقول بانتباه في مقالته (( تشيني ومهمة العين الحمراء في العراق )) :

((القاعة التي يدخلونها ولا ندعهم يخرجون منها إلا في حالتين اثنتين لا ثالثة لهما: التوصل إلى حكومة وحدة وطنية, وعندها سيبدي الأميركيون استعداداً لمواصلة البقاء في العراق, أو في حالة فشلهم في تشكيل تلك الحكومة, فما على أميركا إلا أن تحزم حقائبها استعداداً للرحيل.وعلى الإدارة أن تختار من هو أقدر على وضع هذين الخيارين أمام العراقيين, بكل الوضوح والحزم والإرادة اللازمة. ومن هو أنسب لمهمة كهذه من ديك تشيني نائب الرئيس؟ فهو الأشد لؤماً والأكثر بجاحة بينهم بلا منازع.

وبما أن رتشارد هولبروك كان قد نجح خير نجاح في القيام بمهمة كهذه, في مؤتمر "دايتون" للسلام, الذي وضع حداً للحرب الأهلية البوسنية, فليس مستبعداً أن يكرر ديك تشيني النجاح ذاته في العراق, على أن يساعده هذه المرة, سفيرنا الأميركي ذو الكفاءة المهنية الرفيعة, زلماي خليل زاد. بمعنى آخر فإننا بحاجة ماسة الآن إلى "مؤتمر دايتون عراقي", كما نحتاج كذلك إلى شخص "غشيم" بمعني الكلمة, كي يحقق المؤتمر النتائج المرجوة منه.وفي وسع تشيني أن يبدأ حديثه في المؤتمر مخاطباً السُّنة العراقيين كما يلي: "إنكم لا تريدون صلحاً يا معشر القوم. حسناً لكم ما أردتم, ولكنا سنغادر بلادكم ونترككم تحت رحمة إخوانكم الشيعة الذين يفوقونكم عدداً بكثير كما تعلمون".

ثم يتجه بعدهم إلى الشيعة رامقاً إياهم بعينه الحمراء: "أما أنتم فتريدون أن تحكموا العراق وتبسطوا نفوذكم وسيطرتكم على موارد النفط, دونما اعتبار يذكر لإخوتكم السُّنة. حسناً لكم ما تشاءون, ولكن عليكم أن تعلموا أنكم لن تحكمون إلا مرجلاً متأججاً من اللهيب والغضب, ما لم تتواضعوا وتحققوا صلحاً مع إخوتكم السُّنة".))

أي انه ينصح ديك تشيني منذ البداية ان يهدد الطرفين بالحرب الأهلية و أن يريهم العين الحمراء مع تذكيرهم إن العصا جاهزة . ليس هناك صوتاً ناعماً و عصا غليظة .بل عين حمراء و صوت خشن و عصا غليظة تستمد الأنظمة مشروعيتها من مزيج معقد من الإيديولوجيا و الأخلاق و القوة . لا الإيديولوجيا و لا الأخلاق تكفي وحدها بدون قوة على إدامة نظام أو الدفاع عنه مهما كانت هذه الإيديولوجيا نبيلة و إنسانية . كذلك الأمر بالنسبة للقوة فهي لا تستطيع وحدها إدامة نظام فسرعان ما يتمرد البشر عليها . و قد وصل النظام العالمي إلى هذه النقطة فقد انهارت كل الإيديولوجية الزائفة التي كان يتستر بها فظهر النخر في عظامه جلياً ، و هذا وضع يشير إلى قرب انهياره .

إن النظام العالمي اليوم يبدو عاريا كيوم ولدته أمه في محاكم التفتيش ، ثم نموه كرجل كوبوي في الغرب الأمريكي ، حيث لا قيمة سوى للمسدس ، و لا حياة سوى لمن يسارع لقتل الآخر و يسلخ جلد فروة الهندي الأحمر .