د. يحيى العريضي

في كتابه التاريخي التحليلي المشهور "من حرب باردة إلى سلام ساخن" يقول السيد انتوني بارسونز، أحد السفراء البريطانيين السابقين في الشرق الأوسط وممثلها الدائم في الأمم المتحدة في حقبة ساخنة من تاريخ المنظمة الدولية والعالم، "عندما وصلت إلى فلسطين في عام 1945، بعد مكوث قصير فيها في مطلع عام 1943، وجدت إن السكان العرب، وبالرغم من صدور وعد بلفور الذي تعهد بوطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917، انهم ما زالوا يولون ثقتهم للبريطانيين ويلون ثقة عالية أيضا بالأمم المتحدة الحديثة التكوين آنذاك والتي تخضع خضوعا تاما لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.

لكن اؤلائك السكان العرب كانوا قد صعقوا في 14/5/1948 عندما فاجئهم المندوب السامي البريطاني بإعلان نهاية الحماية البريطانية لفلسطين وهو يغادر حيفا على عجل مع بقية أعضاء سلطته وقواته على متن بارجة حربية بريطانية. وكانه يمهد عن قصد لكارثتهم المقبلة.

وكما توقعوا، عندها أعلن اليهود دولتهم التي سارعت الأمم المتحدة، تحت الضغوط الأمريكية المباشرة بالاعتراف بها، فلم تقل خيبتهم بالمنظمة الدولية عن خيبتهم ببريطانيا التي كانت تعتبر صديقة للعرب في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ العالم.

تمثل في ذلك الإعلان إلغاء شعب كامل بكل ما تحمله كلمة "الشعب" من بشر وارض وتاريخ وحضارة وتحويله إلى لاجئين وشتات يهيمون في الفلاة وهم يبحثون عن هوية ووطن.

وتمثل في ذلك الإعلان بداية الكارثة، او النكبة كما اصطلح عليه العرب التي وشحت تاريخهم الحديث بمأساة متصلة نالتهم في سيادتهم وتقدمهم واستقلالهم على كافة الأصعدة وفي مختلف المجالات.

ومع ذلك، وبعد مضي خمسة عقود، وفي هذه المرحلة المتقدمة من نضال الشعب العربي الفلسطيني لاستعادة بعض ما فقده من كيانه وتاريخه، تعود بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ليمثلا دورا مفترضا لوساطة محايدة تتطلب عهدا وثقة تما كما فعلتا قبل اكثر من خمسة عقود من عمر نكبته ونضاله.

ولكن هذه الثقة تنهار مرة أخرى في الرابع عشر من شهر آذار الجاري حين فاجئ المراقبون البريطانيون والأمريكيون العالم بانسحابهم من سجن أريحا، الذي يتحفظ فيه من قبل السلطة الفلسطينية على قادة فلسطينيين كي يمهد هذا الانسحاب للقوات الإسرائيلية باجتياح المعتقل واختطاف القادة المحتجزين إلى مصير مجهول.

سارعت السلطة الفلسطينية، على لسان رئيسها السيد محمد عباس بإدانة الاجتياح الإسرائيلي لسجن أريحا واعتبرها إهانة للشعب الفلسطيني وجريمة لا تغتفر، لكن لم يكشف أحد دور التواطؤ والتلاعب والخداع من قبل الحكومة البريطانية والأمريكية اللتان مهدتا وهيئتا لتنفيذ هذه الجريمة.

لقد كان واضحا، قبل عملية هذا الاجتياح إن إسرائيل ومنذ زمن طويل ما عادت ملتزمة بما عرف باتفاقيات أوسلو وخارطة الطريق وغيرها وان كل ما تقوم به من جانبها هي عبارة عن إجراءات أحادية الجانب تعتمد القمع والاجتياح والجدار العازل وحتى قبل أن تنتخب حماس للسلطة من قبل الجماهير الفلسطينية.

وقد كان واضحا أيضا، وبالممارسة العملية أن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ما كانا ولن يكونا في يوم من الأيام طرفا محايدا راعيا للحل السياسي والعملية السلمية في المنطقة، وعلى الفلسطينيين والعرب أن يضعا خطا فاصلا بين الطيبة والسذاجة وان يعلموا ان ثمن الثقة الزائفة اكبر جدا من ثمن المواجهة الصادقة والمواقف الأصيلة.

لخصت صحيفة الغارديان البريطانية هذه الحقيقة في عددها الصادر في يوم الخميس، السادس عشر من آذار الجاري على لسان السير كروك، الضابط السابق في جهاز الاستخبارات البريطاني حيث قال، "الأمر يتعلق بثقة كان الفلسطينيون ما زالوا يفترضونها في بريطانيا، وها هم يسحبوها الآن".

ثم يستطرد السير كوك قائلا،"لا يمكن لابناء المنطقة أن يتصوروا أي دور إيجابي لبريطانيا بعد ألان، فهم لا يرون في الدور البريطاني سوى مطية لتمرير السياسات الأمريكية."

أما صحيفة التايمز البريطانية فقد ذهبت إلى ابعد من ذلك، فقد نقلت على لسان خبير بريطاني يعمل لحساب أحد مراكز البحث في رام الله قوله إن أحداث أريحا سوف "تلحق أضرارا دائمة بصورة بريطانيا في المنطقة. فقد بدا الفلسطينيون يتحدثون عن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بنفس النبرة."

عندما نضع استنتاج الدبلوماسي البريطاني السيد انتوني بارسونز عام 1948 في كتابه المذكور وما قاله الخبير البريطاني في صحيفة التايمز في أواسط آذار من هذا العام، لا نملك ا نالا إن نكرر قول الشاعر العربي البليغ "ما أشبه الليلة بالبارحة."

لكن الحكمة، كل الحكمة هل سيكون لما حدث في ليلة 14/3/2006 وما قبلها على قرارات في يوم غد؟ وان غدا لناظره قريب.