مثل الدراما الإغريقية الباكية أو الدامية، انتهت حياة “جزار الصرب” المعروف باسم سلوبودان ميلوسفيتش رئيس يوغوسلافيا السابق والسابقة.

خلف قضبان سجن محكمة جرائم الحرب الدولية في هولندا، مات وحيدا مأسورا بعد خمس سنوات من الاعتقال والمحاكمة، التي سبقتها الإدانة الدولية الذائعة بارتكاب جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، أودت بحياة مئات الآلاف من البشر الأبرياء في عمليات تطهير عرقي مروعة!

ما بين جزار الصرب، وبطل الصرب، تتأرجح تسميات الرجل الذي قفز إلى حكم “الاتحاد اليوغسلافي” القديم في ظروف إقليمية ودولية معقدة وشائكة، ليجلس على الكرسي ذاته الذي جلس عليه الرئيس الأسبق جوزيف تيتو، محافظا لعقود على الوحدة السياسية لقوميات وديانات وثقافات مختلفة..

وبقدر ما استفاد تيتو من مناخ الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في ممارسة لعبة التوازن والحياد الإيجابي والتعايش السلمي، جنباً إلى جنب مع جمال عبد الناصر في الشرق الأوسط ونهرو في الهند، وقع ميلوسفيتش في شراك مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الامبراطورية الاشتراكية العظمى.

وسواء كان هدف ميلوسفيتش إعادة بناء دولة الصرب الكبرى، أو كان هدفه الهيمنة على منطقة البلقان كلها، فقد أخطأ الحساب، وأخطأ تقدير أهداف وسياسات الامبراطورية الأعظم الولايات المتحدة الأمريكية، القادمة بقوة لتصفي آخر ما تبقى من آثار الحرب الباردة والامبراطورية الشيوعية، وخطأ الحساب مع خطأ التقدير هو الذي ساق ميلوسفيتش إلى حروب التطهير العرقي التي مارسها ضد مسلمي البلقان أساسا، ثم إلى الوقوع في تحدي هيمنة الامبراطورية الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، فإذا بهذه تنقض عليه بقسوة شرسة لتدك كل ما في صربيا تحت حجة حماية المسلمين.. للعجب!

في النهاية انتصرت القوة الأمريكية الأوروبية الكبرى، على القوة الصربية الصغيرة، وقبض على الرجل الرمز، وتم تقديمه إلى محكمة جرائم الحرب الدولية، ليكون عبرة لمن يعتبر، ومثلما كانت حياته وحربه وعناده عبرة، جاءت وفاته وظروفها الغامضة عبرة أخرى.

تكاد الصورة الدرامية ذاتها تتكرر مع دكتاتور العراق السابق صدام حسين، حتى وإن اختلفت بعض التفاصيل الصغيرة، هو جزار العراق في نظر البعض، وبطل العراق الأسطورة في نظر آخرين، يتعاطفون معه الآن ربما أكثر من ذي قبل، ساعة يرونه يصمد ويجادل رئيس المحكمة العراقية التي تحاكمه هذه الأيام في بغداد.

شدتني هذه النهايات الدرامية الفاجعة لصدام وميلوسفيتش، بكل ما يمثلانه من رموز، على استعادة ذاكرة تاريخ الحكم الحديث في بلادنا السعيدة، تلك الحاملة لكل أنواع وصنوف “الحكم الدموي القاتل” حيث حاكم جديد فوق جثة حاكم قديم، وبينهما يجري تيار دم الثأر والانتقام، الذي يحكمه تحالف الاستبداد مع الفساد.. أذهلتني الوقائع الحديثة، فتأمل معي.

لا تكاد دول عربية تنجو من هذه الظاهرة، مع اختلاف التنويعات على اللحن الواحد، لحن التغيير بالقوة، العسكرية كانت أو المدنية، ثورة سميت أو انقلابا، حكام طارت رؤوسهم وسحلت جثثهم، وآخرون أودعوا السجون والمعتقلات حتى وافتهم المنية “من دون محاكمات بالطبع”، وغيرهم هربوا من حبل المقصلة قبل طلوع النهار، وحكام جاءوا بالصدفة أو بالانقلاب، حتى من جاءوا بما تسمى الانتخابات، قيل لنا إن الانتخابات كانت مزورة والنتائج مرفوضة.

ولم يكن مثل هذا التغيير ليحدث بهذا الشكل الدرامي والدموي، إلا لأن التغيير السلمي وبالطرق الديمقراطية ظل غائبا غير معترف به في حياتنا العامة، بعد أن أدمنّا ممارسة القهر والاستبداد والتحكم الفردي ورفض الآخر، ومعاداة المجتهد والمختلف ومصادرة الحريات وانتهاك الحقوق.

وانظر معي في الصور التالية التي وقعت خلال الخمسين عاما الأخيرة فقط..

أولا: عرفت الثورات والانقلابات، أي تغيير نظم الحكم ونوعية الحكام بالقوة، بعد أن انسدت قنوات التغيير السلمي الأخرى، طريقها إلى بلاد عربية عديدة وأشهرها بالطبع، مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر وتونس والسودان..

وبقدر ما نجح أسلوب التغيير بالقوة هذا في تحقيق أهداف محددة، أبرزها إطاحة نظام الحكم القائم وإحلال آخر مكانه، أثبت فشله في تحقيق الأهداف الأشمل والأهم المرتبطة بحياة الشعب وليس فقط بحياة الحاكم، وخصوصا هدف تحقيق الديمقراطية وإطلاق الحريات، وهدف التنمية الشاملة والعدل الاجتماعي.

باستثناءات قليلة، لا نكاد نتذكر نجاحا مدويا في هذين المجالين، لنظم حكم جاءت بالقوة واستمرت بالقوة، في غيبة الناس أصحاب المصالحة الحقيقية.

ثانيا: كان طبيعيا أن تسيل الدماء جنبا إلى جنب مع مظاهر تغيير الحكم بالقوة، وانظر إلى اغتيالات الرؤساء والزعماء العرب المتعددة، في مصر “السادات”، وفي العراق “عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف” وفي الأردن “الملك عبد الله المؤسس”، وفي لبنان “بشير الجميل ورينيه معوض”، وفي اليمن “إبراهيم الحمدي وحسين الغشمي”، وفي الجزائر “محمد بوضياف” وفي فلسطين “عرفات” الذي قتل مسموما، والحلقة طويلة ومتواصلة.

ولذلك فإن حظ ميلوسفيتش وصدام حسين كان أفضل، لأن المحاكمة أتاحت لكل منهما الدفاع عن نفسه بالحق أو بالباطل، خصوصا تلك الجلسات التي تسمح بإذاعتها عبر الشاشات ليتابعها الملايين، وأظن أن صدام تحديدا قد حاز تعاطفا من خلال محاكمته لم يحققه طوال حياته، وكذلك الأمر مع موت ميلوسفيتش.

نخلص من كل ذلك إلى أن التاريخ يعطينا على الدوام الدروس والعبر والعظات، ومن أهم هذه الدروس أن التغيير والتطوير ضرورة من ضرورات الحياة وإذا كان وقعها بطيئا في الماضي بحكم عوامل كثيرة، فوقعها الآن أسرع وأغزر، وما لم تجد “الضرورة الحياتية” هذه، التي هي التغيير والتطوير، طريقها بسلاسة وتدفق طبيعي، فإنها تشق لنفسها مسالك أخرى حتى في الصخر كما تفعل تدفقات الماء في الجبال الوعرة.

ولم تكن الثورات والانقلابات والاغتيالات لتحدث لو أن الضرورة الحياتية في التغيير والتطوير قد وجدت طريقها الطبيعي سالكا، نحو بلوغ الهدف الطبيعي للإنسان العادي، في العيشة بحرية وكرامة واكتفاء.

والفارق الرئيسي، بين نظم الحكم المستنيرة التي تعتمد الديمقراطية أسلوبا ومنهجا وممارسة، وتلك الأخرى التي تمارس الاستبداد والقهر، يكمن في مدى الإحساس بحقيقة مشاعر الشعب ومطالب المواطنين العاديين، قبل وقوف مشاعر ومطالب الحاشية والمنافقين والمزايدين والمبررين.

وأحسب أننا نمر الآن بمرحلة فاصلة في تاريخ الأمة، وفي لحظة فارقة من عمر الزمن تلك التي نسحب فيها بدقة ونحاسب بعدل ونتحاور بحرية، فإما أن نلبي حاجة “الضرورة الحياتية” في التغيير والتطوير وانتهاج الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، وإطلاق الحريات العامة وإزاحة عصابات الفساد وتراث الاستبداد، أو يبقى الحال على ما هو عليه نتحدث عن التغيير ونراوغه، نتغنى بالتطوير ونجهضه، نطلق الوعود والبرامج والتصريحات في النهار لكي يطويها ليل النسيان.

المؤكد أن ليل النسيان لن يأتي علينا كما كان يخيم في الماضي، فقد تغير الزمن وتبدلت الظروف في الداخل ومن حولنا، رغما عن إرادتنا في الحقيقة، لأن من يمسك بزمام الأمور هنا، لا يمكن أن يمسك بالزمن كله في كل مكان، ذلك أن عصر العلم والتكنولوجيا والحرية وتدفق المعلومات والإعلام، قد أحدث ثغرة حقيقية في الحضارة الإنسانية المعاصرة، لا ارتداد عنها ولا انقلاب.

آخر الكلام يقول العقاد:

الصدقُ يَسري في الظلامِ مُلثّما

والزورُ يمشي في النهارِ فيسْفرُ