جلسنا نتساءل حول ما هي أكثر المهن عقوقاً في الحياة. وقال الأول إنها الصحافة، لأن الإنسان يمضي عمره فيها ثم ينتهي اسمه مع نهاية آخر مقال كتبه. وقال آخر إنها الدبلوماسية، يعيش المرء سفيراً له خدم وحشم وموظفون، وحفلات وطالبو مواعيد، ثم يتقاعد وحيداً ما من حوله احد.
وقال آخر إنها الجندية، يمضي الضابط خدمته وهو يتلقى التحيات ويعطي الأوامر، وعندما يخلع البزة العسكرية تمر به الناس ولا تعرفه. واعترض آخر قائلاً، انه الطب، لا يقابل الطبيب سوى المرضى ولا يرى سوى الأمراض ولا يسمع سوى الأنين، وعندما يتقاعد ليرتاح يكون مرض الشيخوخة في انتظاره أيضا! وقال آخر إنها التجارة، تهدم الأعصاب، يوم ربح ويوم خسارة، يوم إقبال ويوم إدبار، وفي النهاية مهما جنى التاجر من المال يتطلع حوله فيرى انه لا يزال دون سواه بكثير. دائماً هناك من هو اكبر منه.

وقال آخر، الأسوأ هو العمل المصرفي. كل يوم يرى موظف البنك الملايين تمر أمامه وهو ذو مرتب بسيط. انه المثال الأدق على قاعدة «كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهرها محمول»! وقال واحدنا إنها مهنة القضاء، فعندما يتقاعد القاضي يروح يستعرض في ذاكرته القضايا التي مرت أمامه والأحكام التي أصدرها، ويسائل نفسه، ترى هل كان عادلاً؟ هل ظلم ذلك المحكوم الذي أخرج إلى السجن وهو يصرخ «أنا بريء يا حضرة القاضي!».

وقال آخر، بل هي المحاماة، يقبل المحامي مهمة الدفاع عن مجرم، ثم يدافع عنه بقوة أمام أهل الضحية، وبعدها يشعر بالندم. ثم تدخل في النقاش رجل أمضى عمره في التعليم الثانوي ثم الجامعي. وقال، لقد أصغيت باهتمام وتعاطف إلى كل ما قيل. ودعوني أعرض قضيتي. درّست في البداية الأدب العربي. وهناك الآن عدد كبير من الأدباء والصحافيين والكتّاب والمؤلفين ممن تتلمذوا عليّ، فيما أنا لم أضع كتاباً واحداً ولا يعرفني احد سوى تلامذتي. وفي عملي الجامعي درّست الحقوق. وبين تلامذتي من أصبح وزيراً للعدل، ورؤساء محاكم، ومحامين أصحاب ثروات طائلة، وأنا غير قادر على تغيير سيارتي، ولا على تغيير شقتي التي اشتريتها عند الزواج. وعندما أفكر في مستقبل أولادي، أقول يجب أن أرسلهم إلى العمل مع واحد من تلامذتي لكي لا ينتهوا كما انتهيت، معلماً فقط لا غير.