نحن العرب، أينما نولِّي وجوهنا فثمّة ظاهرة محيّرة، فلا الشارع العربي بمنأى عن ذلك ولا الحكومات العربية. دعنا نأخذ مثالين على ذلك:
أولا: الفيلسوف اليوناني حذر شعب أثينا، منذ خمسة وعشرين قرناً، بأن العقاب الذي سيحلُّ بهم، إن رفضوا إعطاء اهتمامهم لشؤون الحكم في مدينتهم، سيكون العيش تحت حكومة يقودها أسوأ أنواع البشر. اليوم، نحتاج أن نذكّر الشعب العربي بأنه إن استمر في عدم إعطاء اهتمامه لأولويّات السياسة التي تعصف بوطنه العربي فإن مصيره على الأغلب سيكون لعدة أجيال قادمة العيش تحت حكومات مجانين البشر التي يظهر أنها ستتعاقب على واشنطن في المستقبل المنظور.

نذكّر بمقولة الفيلسوف اليوناني ونذكّر أنفسنا وذلك بمناسبة الذكرى الثالثة لاجتياح العراق من قبل جيوش الغزو، وهي الذكرى التي تمرُّ على شعوب الأمة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وكأن الأمر لا يعنيها، هذا في حين أن مئات الألوف من المتظاهرين قد خرجوا في عواصم العالم المختلفة ليعبّروا عن سخطهم على تلك الكذبة التاريخية الاستعمارية التي حاكتها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

الغريب أن الشارع نفسه يستطيع أن يخرج مائتي ألف متظاهر في بلد تعداد سكانه نصف مليون للاحتجاج على قانون لا يريده البعض. نفس الشارع يستطيع إخراج مظاهرة من مليون شخص للاحتجاج على ممارسات نظام عربي تدخّل في شؤونهم. لكن هذا الشارع العربي نفسه يشاهد مذابح العراق وتمزيقه، يستمع كل يوم لأنين نسائه وأطفاله، يكتشف وجود سجون وقلاع احتجاز سريّة أميركية لا تقلُّ الممارسات الحقيرة فيها عما تصوره أبشع أفلام الرعب الخيالية، يستمع إلى تصريحات المسؤولين الأميركيين والإنجليز والصهاينة، والتي لا تمتُّ بأية صلة لأية مشاعر إنسانية أو أخلاقية، يرى بعض حكوماته وهي تقف خلف صفوف العالم تتفرّج وتلعق دم الضحايا من على يد الجلاّد... يشاهد ويرى ويسمع لكنه لا يفعل شيئاً مماثلاً لما يفعله في قضايا أقل خطرا على مستقبل أبنائه وحضارته ودينه.

ما تفسير هذه الظاهرة المأساوية ؟ هل هو وجود هوّة سحيقة بين الشارع العربي والشارع العالمي؟ أم أننا وصلنا بحق للصورة التي رسمها المرحوم الصادق النيهوم من أن كل مواطن عربي لوحده يبدوا عاقلاً في تمام وعيه لكن الأمة ككل تبدو غائبة عن الوعي؟ أم أن الصورة التي صورها المتنبّي (قد تعيش النفوس في الضّيم حتى... لترى الضّيم أنها لا تضام)؟ قد أصبحت هي التركيبة النفسية لهذه الأمة؟ أم أننا نمارس الانتحار الداخلي الذي وصفه المؤرخ الإنجليزي العظيم أرنولد توينبي على أنه مقدّمة لانهيار الحضارات.

ثانيا: يجوب في هذه الأيام رئيس معهد العالم العربي دول مجلس التعاون ليشرح لحكوماتها الوضع المالي الخطير لهذا المعهد، فهذا المعهد الثقافي العريق، المشترك بين حكومة فرنسا التي تتكفّل بتحمُّل ثلثي ميزانيته السنوية وبين حكومات اثنتين وعشرين دولة عربية والتي تفشل سنوياً بصورة مخجلة من القيام بتحمل ثلث ميزانية المعهد التي وعدت بها عند تأسيسه، هذا المعهد مهدّد الآن في وجوده.
إن الأمة العربية لا تستطيع أن تقدّر أن باريس هي نافذة الثقافة لكل أوروبا وأن هذا المعهد بالتالي هو استثمار في أوروبا كلها. وهي لا تريد أن تعرف أن دعم هذا المعهد هو في صلب مقاومة الهجمة المسعورة التي تشنّها القوى الصهيونية على ثقافة العرب والمسلمين وأنه معهد يشهد القاصي والداني بأنه خدم الثقافة العربية والإسلامية في أوروبا أكثر مما خدمتها وزارات الإعلام العربية مجتمعة، ومما خدمتها أقسام الدراسات الشرقية والإسلامية في الجامعات الأميركية والأوروبية التي تعيش في أبراجها العاجية ولا تتواصل مع المواطن العادي في الغرب.
كيف لا يصاب الإنسان بالإحباط وهو يرى أن العمى قد أصاب هذه الأمة، فإلى أين نولِّي وجوهنا؟