«وسائل الإعلام وتغطية الحدث الديني» كان موضوع ورشة عمل أقامها الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي في بيروت, ناقش فيه مشاركون من مصر ولبنان والأردن وفلسطين وسوريا, على مدى ثلاثة أيام من 16 ­18 آذار مارس حساسية دور الإعلام في تغطية الأحداث الدينية, وكيف يتحول الإعلام من ناقل للوقائع إلى مثير للفتن ومؤجج للنزاعات. اختلفت الآراء حول ماهية الدور الإعلامي, هناك من حمله أكثر مما يحتمل من مسؤولية عن تسييس بعض الأحداث, ومنهم من مضى نحو اعتبار الإعلامي «صانع سلام»؛ المصطلح أثار فريقاً آخر وجد فيه نفاقاً وتزييفاً للحقائق على الأرض, فليس من مهمات الإعلامي التجميل وإنما فضح الممارسات الخاطئة والانتهاكات, فلا يجب السكوت عن اضطهاد مجموعات دينية معينة لأي سبب كان, وهو رأي خالفه آخرون رأوا أن الإعلامي ليس صانع سلام, لكن بالتأكيد ليس «مثيراً للفتن», فأي موضوع مهما بلغت حساسيته يمكن مناقشته بصيغ متعددة, تحريضية استفزازية أو تصالحية هادئة. وتم التركيز على ضرورة تعرية الحدث الديني من أي إسقاطات أخرى تحرفه عن سياقه الطبيعي.

في النهاية وكالعادة, وضع المشاركون توصيات تصب في إطار تكريس ثقافة الحوار والقبول بالآخر, وتوخي الحذر في نقل أي حدث ديني من شأنه إثارة المشاعر... إلخ. المؤكد أن ما تم طرحه من أفكار في الورشة يأخذ أهميته من الأزمات الراهنة التي تعيشها المنطقة, ومنها بوادر عودة النزاعات الطائفية التي تمور في مناطق عدة في مقدمتها العراق, بالإضافة إلى تأزم العلاقة بين الغرب المسيحي والعلماني مع الشرق المسلم على خلفية نشر الرسوم المسيئة للإسلام, والتصادم بين حرية التعبير المطلقة مع العقائد المطلقة, وما قد تجره من تداعيات مستقبلية.

من هذا الجانب, تعتبر مبادرة الفريق العربي للحوار الإسلامي ضرورية للفت انتباه وسائل الإعلام العربية والقائمين عليها من حكومات وممولين إلى خطورة زج الموضوع الديني في السياسة, سواء أكان عن وعي يهدف إلى تلميع الأنظمة وتوطيد دعائم بقائها, أو بغير وعي عبر ترديد مصطلحات الإعلام الدولي النابعة من أهداف ومخططات يجري تنفيذها في منطقتنا؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر, بعد الحرب على العراق, بدأ الإعلام العربي يستخدم في تغطيته لأحداث العراق مصطلحات ترتكز على تقسيم العراق طائفياً, فنسبت المقاومة للسنة في مناطق معينة وتم ربطها بالقاعدة, ونسب العمل السياسي للشيعة وتم ربطه بإيران, فيما غيبت الأطراف الأخرى, وكأن التجاذب بين فريق ينال الرضا الأميركي وآخر يناهضه بالعمل المسلح, ليتبين لاحقاً أن نسبة كبيرة من تلك التغطيات كانت مضللة, فعناصر القاعدة في العراق وحسب مصادر أميركية لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة, كما أن الجنوب لا ينعم بالهدوء, وخصوصا أن هناك من يقصيه عن نشرات الأخبار, ناهيك عن غياب شبه تام للعراقيين من طوائف أخرى, ولولا تفجيرات الكنائس لما عرف شيء عن واقع هجرتهم الجماعية, التي تم التعرض إليها سريعاً كالبرق, قبل أن تؤول الى الصمت, كما هي أخبار باقي الأطياف الأخرى المكونة للشعب العراقي.

لا شيء بريء في الإعلام, وهذا لا يتحمل مسؤوليته كاملة الإعلامي الذي يقوم بتغطية الحدث من دون حماية, بل سياسة المؤسسة التي يعمل بها, وسياسة الجهة الداعمة لتلك المؤسسة, فالإعلامي الذي يتكبد عناء تغطية الحدث ولا سيما في بؤر الخطر قد يدفع حياته ثمناً لذلك, وشهيدة الصحافة أطوار بهجت التي لم يجف دمها بعد, تبقى دليلاً على أن الإعلامي لا يدفع الثمن من اجل تزييف الواقع أو خدمة للسياسة على حساب إنسانيته ومهنيته, وإنما هذا واقع مغامرة خطرة يعيشها, وسيرة تنازلات مؤلمة تفرضها ظروف لا ترحم, سواء حين يضطر إلى الاكتفاء بنقل ما تقبل وسيلته ببثه أو نشره, أو حين يتهم بالانحياز لطرف دون آخر لأنه يقف على الحياد في لحظة عارمة من هياج عام خارجة عن العقل والمنطق. ولنتصور كيف ترد الجموع الثائرة على إعلامي في موقع الحدث, لو حاول تفسير هياجها بغير ما يرضيها. ولعل هذا أصعب موقف يتعرض له, فيضطر لتدوير الزوايا, وتسطيح المقعرات, بما يجافي الحقيقة حين يكون الضمير المهني على الضد من الضمير الإنساني. لكن هل هذا كاف لتبرير الانصياع للمزاج العام؟ من المؤكد لا, فقد كانت تجربة الإعلام العربي مع الجماهير قبيل الحرب على العراق متواطئة, عندما انساق الإعلام خلف حماسة الشارع وأعلن ثقته باندحار جحافل الغزو, ليسقط سريعاً في هوة الإحباط مع السقوط السريع والغامض لبغداد, ولا تختلف كثيراً تجربة نكسة حزيران يونيو التي ما زلنا نتجرع مرارة خيباتها لغاية اليوم.

اللعبة الإعلامية في غاية التعقيد؛ فهي ليست عملية إعلامية بحتة, وإنما سياسية بالدرجة الأولى, والمشكلة أن السياسة غالباً ما تكون انتهازية إن لم تكن قذرة, ولا يمكن للإعلام النجاة من التورط في مقامرات ابخس ما فيها «الإنسان» بكل ما تحمله الكلمة من دلالات مؤلمة, فما بالنا بالدين المعبر النبيل عن الروح والعاطفة, عندما يرتبط بوسيلة تقف وراءها جهات لها مآربها ولا تعبأ بقانون ولا حريات, ليكون الإعلام الوسيلة الأسرع والأسهل لإشعال الحرائق, في البقاع المأزومة والعصية على التقدم.

في حال كهذا, نقول طوبى لإعلام ينطق بلسان الضمير الإنساني, دون تعصب عاطفي أو تطرف طائفي, وطوبى لجهات أهلية إذ تدعو الى ورشة عمل لبحث تغطية الحدث الديني كحاجة ملحة, في زمن تتصاعد فيه دعوات صراع الحضارات وصدام العقائد, وقد كان من الأولى للحكومات القيام بهذه المبادرة, أو أضعف الأيمان التجاوب مع التوصيات التي تصدرها, عسى أن تجنب مجتمعاتنا المتدينة كوارث في غنى عنها, إلا إذا كان لها غاية في تحويل نعمة التنوع الى نقمة تستفيد منها عوامل الفرقة والتناحر!!