أنطوان شلحت (عرب 48)

"أيام السرية حول البناء فى يهودا والسامرة "الضفة الغربية المحتلة"، وصلت على ما يبدو إلى نهايتها، ففى غضون الأيام القريبة القادمة سيتسلم القائم بأعمال رئيس الحكومة إيهود أولمرت معطيات بحث يقع فى أكثر من ألف صفحة، يلخص للمرّة الأولى الميزانيات التى صرفت فى المناطق وحجم البناء فى الضفة الغربية، ويقدّر القيمة المالية للمستوطنات. ولا يدور الحديث عن قيمة البيوت حسب سوق التخمينات، وإنما عن احتساب الميزانيات التى تمّ صرفها على هذه المستوطنات.

إن السطر الأخير يحدّد أن حجم الميزانيات التى صرفت على المستوطنات وصل إلى أكثر بقليل من 14 مليار دولار، هم 15%من الناتج القومى فى إسرائيل، ونصف المبلغ وصل من ميزانية الدولة، والباقى من مبادرات شخصية.

بالإضافة إلى هذا فإن الميزانية التى تكلفت بها الدولة لا تشمل التسهيلات والامتيازات المختلفة، التى حظى بها من انتقل للسكن فى المناطق "المحتلة"، مثل التسهيلات الضريبية والمنح المالية والامتيازات الأخري، وهذا يعنى أن الميزانية التى تحمل عبئها الجمهور فى إسرائيل لصرفها على المستوطنات والمستوطنين هى أكثر بكثير.

فبهذه الأموال تم بناء 14 مليون متر مربع من البناء للسكن "الاستيطان". بالإضافة إلى مبان عامة ومبان صناعية وتجارية وشوارع وبنى تحتية. وهذا من دون المبانى للأغراض العسكرية.

هذا بعض ما جاء فى التقرير غير المسبوق الذى نشره الملحق الأسبوعى الأخير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" عن بحث غير مسبوق بدوره، على ذمة الصحيفة، تعرّض إلى تكلفة الاستيطان الإسرائيلى فى المناطق الفلسطينية المحتلة.

وبحسب تقرير ملحق "يديعوت" فإن البعض يرى فى إشهار هذا البحث، رغم أن ذلك قد يعدّ من الأمور السابقة لأوانها، تهيئة لـ"الانسحابات الإسرائيلية الأحادية المقبلة" أو لخطة أولمرت الماضية نحو ترسيم "الحدود الدائمة" لـ"الدولة اليهودية والديمقراطية" على أساس مبدأ "أرض أكثر وعرب أقل" وما تتطلبه من "مساعدات مالية خارجية"، حسبما انعكست فى خطابه أمام "مؤتمر هرتسليا" أخيرًا "أواخر كانون الثانى 2006".

فيما قد يظهر لنا أن ثمة هدفًا مخفيّا أعظم، هو وضع مسألة الاستيطان الإسرائيلى فى سياقها الصحيح، الذى يحيل أولاً ودائمًا إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وليس بضع حركات فى الهامش، هى صاحبة الحقّ الأول والأخير عن هذا "المشروع" الذى لا يزال متواصلاً كما يؤكد، مثلاً، تقرير حركة "سلام الآن" الذى جرى إعلانه يوم الاثنين السادس من شباط 2006. وبالتالى فهى تبقى مسؤولة عن "إعادة اصطفافه"، تبعًا لهذا المستجدّ أو غيره.

مع ذلك فإن البحث المذكور يوضّح مبلغ تورط هذه الحكومات فى موضوعة الاستيطان، الذى بات مؤخرًا مصدرًا لأخطار إسرائيلية داخلية محتملة، حسبما ندّت عن هذا الوقائع المرتبطة بخطة فك الارتباط وأخري، أكثر جدة، مرتبطة بإخلاء البؤرة الاستيطانية فى "عمونه"، مطلع شباط 2006.

وأمر هذا التورّط غير مقتصر على الحكومات اليمينية، مع مراعاة التحفظ المعهود من التقسيم العامودى ما بين يمين ويسار فى كينونة إسرائيل. لكن ذلك لا يمنع من رؤية أن حكومات ذلك "اليسار" على علاّته لم تكن أقل غلواءً فى هذا الشأن.

وإذا أخذنا مسار أوسلو كنقطة زمنية للتقدير فلا بدّ من استعادة حكم القيمة القائل بأن جميع خروقات إسرائيل لما تضمنه اتفاق أوسلو من التزامات تكاد تتقزّم حيال سلوكها فى قضية الاستيطان، الذى تمثلت غايته الرئيسة وقتئذ فى إيجاد ظروف ووقائع ميدانية تحول دون تقسيم البلاد ودون قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل إقليمي.

ونتيجة لذلك، أصبح جماهير المستوطنين وأنصارهم على مدار السنوات عنصرًا شديد التأثير فى الساحة السياسية فى إسرائيل. والحقيقة أن أية حكومة فى إسرائيل لم تفلح بعد أوسلو فى إتمام ولايتها القانونية تعدّ تعبيرًا ملموسًا عن انعدام الاستقرار السياسي.

ويلفت النظر فى هذا الخصوص أن جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة فى العقد الأخير أيّدت وأعطت الضوء الأخضر، لتوسيع المستوطنات ومصادرة الأراضى وخلق مواقد احتكاك مع الفلسطينيين بين الفينة والأخري. وخلال السنوات الثمانى الأولى من "عملية أوسلو" زاد عدد المستوطنين بحوالى 80 بالمائة، فيما تشكل الزيادة الطبيعية نسبة ضئيلة من هذا الارتفاع.

بيد أن الوقائع المذكورة أعلاه تزامنًا مع فك الارتباط وما أعقبه هى تفاصيل لا يمكن الاستهانة بها فى المشهد الإسرائيلي، وتستدعى بطبيعة الأمر التفاتنا نحوها وتمحيصنا لها، غير أنها لا تنوب عن مواجهة حقيقة متوارية ربما خلفها مؤداها أنه بقطع النظر عن جميع تلك التفاصيل فإن هناك شبه إجماع إسرائيلي، لا نغامر حين نقول إنه ذات اليمين وذات اليسار، أصبح متشكلاً حول شكل ومحتوى تسوية الحل الدائم للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي.

ومهما تكن تفاصيل شبه الإجماع هذا فإن ما يميزه أنه متجوهر تحديدًا فى نقطتين متصلتين:

 الأولي: رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

 الثانية: رفض العودة إلى حدود حزيران 1967، ما يعنى السعى المحموم إلى شمل كتل استيطانية برمتها ضمن الحدود النهائية للكيان الإسرائيلي، وفقما سيكون منصوصًا عليه فى التسوية المزمعة.

ولئن كان هذا الكلام مكرورًا بعض الشيء فإن ما يستحثنى على الإعادة، وإن كنت أعتقد بأن الجهود السابقة غير مقدّر لها أن تضيع هباءً، هو أننا مطالبون على الدوام بعدم التلهى عن الأسباب بالنتائج.

من النتائج، الآن وهنا، أن ثمة صراعًا على "البرنامج السياسي" لهذا الاستيطان، بين مركز آخذ فى التمأسس "يعبر عنه حزب "كديما" أساسًا" وبين أحزاب اليمين المتطرف، أحزاب "أرض إسرائيل الكاملة".

إن الصراع سبق أن أجمله وزير السياحة الإسرائيلى الأسبق وأحد أقطاب اليمين المتطرف، بينى ألون، بقوله إنه صراع بين أصحاب "النزعة الأمنية" "التى تزعمها أريئيل شارون نفسه" وبين أصحاب "النزعة العقائدية"، دون أن يعنى ذلك، فى العمق، إسقاط الصبغة العقائدية الصهيونية عن أصحاب النزعة الأولي.

وينتظر أن يشهد الصراع تصعيدًا ما. غير أنه لا ينتظر أن ينسحب إلى أمور تحمل تناقضات تهدّد موقف "الإجماع" فى القضايا الرئيسة

ولا يعدم تاريخ إسرائيل بعض السوابق التى تفيد قراءتها الآن فى تحصيل الحاضر. من تلك السوابق أنه فى أوج النضال ضد الانسحاب من سيناء، فى 1981-1982، نشر الحاخام إيلى سدان، "أحد منظرى الصهيونية الدينية"، مقالاً تحت عنوان "لنؤسس من جديد دولة اليهود". وقد رفض "سدان" الفهم الصهيونى التقليدي، وقال إن هذا الفهم يرى فى أرض إسرائيل، "ملجأ أمنياً فقط ولا يرى فيها فريضة أو هدفًا دينيًا".

وقبل حوالى عشر سنوات كتب منظّر آخر من التيار نفسه فى جريدة المستوطنين "نكوداه" "بؤرة"، أن "التعاون مع الصهيونية العلمانية "، من طرف الصهيونية الدينية"، استمر طالما تبنت الصهيونية العلمانية بصورة واضحة فكرة الوطنية اليهودية. وعندما اتضح أن دولة إسرائيل ليست إلا دولة علمانية ديمقراطية لا يوجد لليهودية مكان فى سياستها، فإن ذلك شكل خيانة لجذور الحياة اليهودية حتى وإن كان ذلك من قبل من يتحدثون العبرية".

طبعًا ثمة مبالغة فى الطرح السالف وفى اتهام أصحاب "النزعة الأمنية"، وهى مبالغة لا تضبّب حقيقة، أن النقاش، هو حول نطاق الاستيطان وضرورته فى آن، لغاية تثبيت يهودية الدولة، لا حول جوهره، وماهيته فى الجسد المتكامل للمشروع الصهيونى، الذى كان الاستيطان، ثم الاستيطان، وقوده الرئيس.