الأزمنة الصعبة مسؤولة بالدرجة الأولى عن مجالات جديدة، وهذه الأزمنة تفتح احيانا مسارا تاريخيا يمكننا ملاحظته منذ اللحظات الأولى للبشرية، فحتى الأديان السماوية شكلت افتراقا أدت لظهور "الدين الثالث". ورغم أن المثال التاريخي الديني يطرح جملة إشكالات خصوصا مع انتصار الإسلام "كدين الوسطية"، لكنه في النهاية عبر عن حل جديد داخل المسار الديني في الشرق الأوسط عموما.

ويبدو من الصعب وضع تصور مسبق عن التيار الثالث دون "الغطاء التاريخي" أو البحث في النماذج التي ظهرت في فلكه، أو حتى الخلفية التاريخية التي أوجدته كطريق لا يشكل اتجاها بقدر كون آلية للخروج من أزمة معينة، فهو "طريق" في شكله العام محاط بطبيعة الأزمة التي تولدها حدة الصراع بين نقيضين في زمن تاريخي. وعلى الرغم من أن هذا الطريق يقدم "حلا وسطا" لكنه في النهاية معبر عن اتجاه خاص يؤثر بشكل مباشر على طرفي المعادلة التي أنتجته. وهذا التداخل هو الذي يعطيه أحيانا غموضا في الاتجاه لأنه برز وفق بعدين أساسيين:

 الأول اقتصادي عبر عن نفسه ضمن أفكار أولية عام 1936 على يد الكاتب السويدي Marquis Child في كتابه (السويد .. الطريق الوسط) Sweden, the Middle Way محاولا تشكيل نظرية بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، عبر أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي.
 الثاني أنه لا يحاول التعبير عن إيديولوجية، فهو يدعي تحرير الاقتصاد من الأيدولوجيا وإتباع نهج اقتصادي واجتماعي يمكّن من مواجهة التأثيرات السلبية للأحادية السياسية والاقتصادية للحصول على حد أدنى من المكاسب الديمقراطية.

والطابع الاقتصادي الذي يتعامل مع الطريق الثالث منذ بداية ظهوره لا يخفي الطموح السياسي مع إعادة إنتاج الاقتصاد لخدمة مصالح الطبقة الوسطى التي يعتبرها الشريحة التي يمكن أن تمده بالدعم السياسي لاستكمال برامجه. فخدمة الأمن الاجتماعي ودعم "دولة الرفاهية" كمفهوم ظهر في خمسينيات القرن الماضي لا يملك سوى غرض سياسي واحد هو إعادة إنتاج "النخب السياسية" من جديد وبالتالي تقديم تيار بأفكار خاصة يؤثر على الجغرافية – السياسية ويدفعها نحو التفاعل بشكل أكبر.

ما الذي تقدمه الصورة الأولية لظهور التيار الثالث في الدول الاسكندنافية؟!! إنها فقط اللحظات الخاصة التي تظهر بوادر التيار الثالث كنموذج فقط، عبر شكل اقتصادي لكنه يتكون في داخله لغرض سياسي. فالتيار الثالث لا يمكننا ان نراه بشكل مطلق دون واقع اجتماعي يتكون، أو حتى استقطاب حاد يحاول تكوين مفرداته داخل المجتمع. لكنه في النهاية محاولات جادة للبحث عن حلول يفرضها واقع وثقافة المجتمع.