العالم الاسلامي يعيش اليوم صراعا فكريا حزينا بائسا بين فريقين، فريق يرى أن المسلمين السابقين يجسدهم فكر «طالبان» و«كابول» ومن على شاكلتهما، وهو فكر لا يرى الحق إلا في عدد محدود من الناس والباقي على ضلال ويجب محاربته. والفريق الثاني ينتمي لقمة الفكر الحضاري للاسلام، متمثلا في الفترة الاندلسية الزاهية، تلك الفترة التي كانت العلوم فيها في أوجها وباتت غرناطة وقرطبة أعلى منارات العلم في العالم، وانتج هذا المناخ جهابذة لا يزال العالم يجني ثمارهم، ناهيك من بيئة التسامح الهائلة والتعامل السوي مع الآخر بمختلف اشكاله. هل اختفى هذا النموذج الصحي من عالمنا اليوم؟ سؤال مهم يجب طرحه ومحاولة الاجابة عليه أيضا.

وهذه السنة وقع الاختيار على مدينة حلب العريقة لتكون عاصمة الثقافة الاسلامية في العالم العربي لعام 2006. وحلب تتنافس مع مدينة دمشق على لقب المدينة الأقدم التي سكنها الناس بصورة متواصلة وشهدت تواصلا حضاريا استثنائيا عبر السنين. فمن السهل أن تجد في حلب خليطا غير بسيط من الاعراق المختلفة، عربا وتركمانا وسريانا وأرمنا ويهودا وغيرهم. قد تكون شهرة حلب مستمدة من أن أهلها «ذواقة»، فباعها طويل في مجال الطهي بأطباقها المعروفة، وأيضا في تذوق الطرب والغناء، حتى بات يطلق عليها حلب: «مدينة الكبب والطرب»، إلا أن حلب تمكنت من تكوين «ثقافة» استثنائية جعلت المقيم فيها يعتز بأنه «حلبي» أولا، فمنها خرج يهود مميزون امثال عائلة صفر والتي كانت تتاجر بالذهب، وسميت بهذا الاسم لهذا السبب، ومنها أدمون صفرا أحد المصرفيين العالميين المعروفين. ومن حلب خرج «مارون» الراهب المسيحي الذي أسس الطائفة المارونية المنتشرة في لبنان، وطبعا خرج منها مشايخ وعلماء مسلمون عديدون من ضمنهم مفتي سورية الحالي الشيخ أحمد الحسون اضافة للشيخ المعروف عبد الرحمن الكواكبي. وأخرجت حلب اثنين من أهم ساسة سورية رشدي كيخيا رئيس حزب الشعب، ورئيس الجمهورية «الذهبي» الدكتور ناظم القدسي. وقدمت حلب علامات مهمة في مجال الادب والفنون كالقاضي وليد اخلاصي والفنانين التشكيليين وليد كيالي وفاتح المدرس، وأيضا هناك الصداح العملاق صباح فخري صاحب القدود الحلبية المعروفة.

وطبعا هناك العشرات من النماذج الناجحة في مجالات الهندسة والطب والمحاماة وغيرها التي تجعل من حلب التاريخية حاضنة للتسامح، وثقافة ابداعية استثنائية من الممكن الاستفادة الكبيرة منها في الكثير من انحاء العالم العربي تحديدا، والعالم الاسلامي عموما. في حلب أكبر سوق مسقوف في العالم وفيه المئات من المحلات التي تستورد البضاعة من شتى أنحاء العالم في شكل «عولمي» فريد قبل أن تصبح هذه الكلمة موضة يستخدمها القاصي والداني. هناك عمق اخلاقي مهم كانت تقدمه حلب ومناخها وثقافتها يشمل عناصر متنوعة منها الديني والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وهو ما يفتقر اليه الطرح الاقصائي البغيض مهما تستر وتزين بحجج وأقاويل وأدلة.