شيء كبير تجري حياكته في المنطقة من قبل العواصم الكبرى ويطال لبنان بشكل اساسي وعلى عكس ‏ما يعتقده البعض بان ما يحصل هو وليدة هذه الحادثة او تلك وبالتالي ردة فعل دولية ‏عليها، فان خفايا الامور تتحدث بالتأكيد عن مشروع مترابط يجري تنفيذه مرحلة وراء ‏مرحلة.‏
فيوم سقطت بغداد في يد القوات الاميركية، كان وزير الخارجية الاميركي يومها كولن باول ‏يقوم بجولة على بعض عواصم المنطقة ومنها بيروت حيث التقى رئيس الجمهورية العماد اميل ‏لحود يومها قال باول بحضور اركان الدولة اللبنانية الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري ما ‏حرفيته: «لقد سقطت بالامس بغداد وزال عنها نظام صدام حسين الديكتاتوري واضحت المنطقة ‏على مشارف مرحلة جديدة. وعليكم في لبنان ان تستعدوا لمتغيرات هذه المرحلة. فالقوات ‏السورية يجب ان تنسحب من لبنان، وعلى حزب الله ان يسلّم سلاحه» يومها اجاب الرئيس لحود ‏ضيفه الأميركي بالقول: «بقاؤكم في العراق ليس مضموناً. فلن يطول الوقت قبل ان ينتظم ‏العراقيون في خلايا مسلحة لمقاومة وجودكم. ذلك ان تاريخ شعوب هذه المنطقة معروف وواضح، ‏والفراغ الذي سيخلفه زوال نظام صدام حسين ستملأه عمليات عسكرية، ولن تلبث القوات ‏الاميركية بالانسحاب من هذه المنطقة».‏
وتمتم باول منهيا حديثه بسلاسته التي اشتهر بها: «هذه وجهة نظر..» وهذا الحوار الذي حصل ‏في العام 2003 مدون في المحاضر الرسمية اللبنانية. واهميته تكمن في ان كل ما حصل من تطورات ‏على الساحة اللبنانية في الاشهر اللاحقة، انما جاء انسجاماً مع مشروع اميركي كبير بدأ ‏بالدخول الاميركي العسكري الى بغداد ويجري استكماله بالتطورات السياسية اللاحقة.‏

ورغم التعثر الذي يصيب الوجود العسكري الاميركي في العراق مع الخسائر اليومية الاميركية ‏والتي ادت الى شبه قناعة لدى الادارة الاميركية بسحب القوات الاميركية من العراق، الا ان ‏واشنطن لم تتخل عن استكمال رؤيتها لترتيب اوضاع الشرق الاوسط الجديد، فبعد تحقيق البند ‏الاول والمتعلق بانسحاب القوات السورية من لبنان، تستكمل واشنطن ضغوطها لنزع سلاح حزب ‏الله، طبعا كل ذلك استباقاً لترتيب الواقع الاسرائيلي ــ الفلسطيني، ولاعادة رسم علاقة ‏جديدة مع طهران.‏
ومن هذه الزاوية تجاوزت واشنطن كل الاعتراضات التي صدرت عن بعض القوى اللبنانية حول ‏اعتماد تقسيمات العام الفين في الانتخابات النيابية الاخيرة، وهي اغمضت عينها عن ‏التجاوزات الفادحة التي رافقت العملية الانتخابية، لا بل على العكس قامت بتغطيتها ‏دوليا من خلال الفريق الدولي المراقب، وذلك بهدف احكام السيطرة على البرلمان من قبل القوى ‏الحليفة لها والمنضوية في مشروعها. لا بل انها رعت ولادة حكومة السنيورة وامنت لها غطاء ‏دوليا قويا بهدف الاستعداد لمرحلة نزع سلاح حزب الله. لان الادارة الاميركية تعرف تمام المعرفة ‏المخاطر والصعوبات التي تحيط بهذا الجانب، فهي عملت على اخذ الوقت الكافي لتأمين نجاح هذا ‏المطلب. لا بل ان الديبلوماسيين الاميركيين لاموا في احيان كثيرة تسرع ورعونة بعض اقطاب ‏الاغلبية الحاكمة، خشية احتراق الطبخة بدل انضاجها.‏

ومن هذه الزاوية دعمت واشنطن مؤتمر الحوار الوطني وتابعت مراحله باهتمام وهي ارادت منه ‏جني ثمرة واحدة: انتزاع مهمة محددة لسلاح حزب الله بما يسمح بانهاء دوره. او بمعنى اوضح تحديد ‏دور سلاح حزب الله. وصحيح ان امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله قال خلال الاجتماع بوضوح ‏ان سلاح المقاومة محصور بتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة (مزارع شبعا) واعادة الاسرى ‏اللبنانيين في السجون الاسرائيلية الا انه ربط ملف المقاومة بمنظومة الدفاع الاستراتيجي عن ‏لبنان لمرحلة ما بعد الانسحاب الاسرائيلي.‏
العارفون يقولون ان النائب وليد جنبلاط رفع الصوت بوجه حزب الله انما كان ينفذ تكليفا ‏اميركيا في هذا المجال. ذلك ان فحوى صراخه يومها تركز حول نقطة واحدة، حددوا لنا دور ‏سلاح حزب الله ومساهمة علمياته.‏

وبدا لواشنطن ان هدفها من مؤتمر الحوار بات قريبا من التحقق ، فالاعتراف بلبنانية مزارع ‏شبعا وربط مهمة المقاومة بتحريرها يعيدان الحياة للمشروع الاميركي وليس العكس. ذلك ان ‏المشروع الاميركي يقوم على الركائز التالية:‏
- تحديد دور المقاومة بشكل واضح (مزارع شبعا والاسرى اللبنانيون).‏
 انسحاب اسرائيل من مزارع شبعا واطلاق سراح ما تبقى من الاسرى اللبنانيين.
‏ - واعلان انتهاء دور المقاومة.‏ - وضع السلاح الثقيل لحزب الله في مخازن تحت اشراف الجيش اللبناني ومسؤولين في حزب الله، على ‏ان يشمل هذا السلاح كل أنواع الصواريخ والمدفعية لاسيما منها مدفعية الهاون والتي تصرّ ‏عليها واشنطن نظرا لسهولة العمل بهذه المدفعية ونقلها بسرعة من مكان الى آخر.‏
‏- انشاء قوة احتياط تابعة للجيش اللبناني وتكون خارج الهيكلية الرسمية للجيش. ويجري ‏ضم عناصر حزب الله اليها، ضمن صيغة يجري الاتفاق عليها لاحقا، وتشكل حلا لموضوع منظومة ‏الدفاع الاستراتيجي عن لبنان والتي يطالب بها حزب الله.‏
يبقى في هذا المشروع عقدة اساسية وتتعلق باعتراف سوريا الخطي بلبنانية مزارع شبعا وهو ‏ما تشترط اسرائيل لتنفيذ انسحابها من هذه المنطقة.‏

وحسب المطلعين على المناخ الدولي فان لاعتراف سوريا الخطي قصة ثانية، واثمان اخرى. ذلك ان ‏واشنطن تبدو على قناعة بأن سوريا التي تجاوزت المرحلة الخطرة، تسعى للتفاوض مع واشنطن ‏حول مسألة التوقيع على وثيقة لبنانية مزارع شبعا. وحسب المعلومات فانه وخلال الزيارة ‏الاخيرة لنائب الرئيس السوري فاروق الشرع الى القاهرة، سأله الرئيس المصري حسني مبارك عن ‏هوية مزارع شبعا فأجاب الشرع: لقد سبق وأعلنا انها لبنانية. ثم استطرد مبارك سائلا من ‏جديد: أنا اعني المنطقة كلها التي تتحدث عنها الحكومة اللبنانية. وأجاب الشرع من جديد: ‏انها لبنانية، لبنانية بالتأكيد.‏
عندها قال مبارك: إذن وقعوا على هذه الوثيقة لتصبح معتمدة رسميا لدى الامم المتحدة. ‏وجاء جواب الشرع لافتا: لدينا بعض الوقت.‏

وقد فهمت واشنطن من كلام الشرع بعدما جرى نقل كامل الحديث الى المسؤولين الاميركيين ان دمشق ‏ترغب بالتفاوض مباشرة حول هذا الملف مع واشنطن وليس عبر وسطاء.‏
وفي واشنطن هنالك من يدرك ان دمشق تريد من وراء ذلك ضمانات مستقبلية.‏
ذلك ان فك عقدة مزارع شبعا سيفتح الباب على مصراعيه امام الحل الدولي لمسألة المقاومة في ‏لبنان حسب البرنامج الموضوع. وسوريا تسعى لضمانات للمرحلة المقبلة. ومن هذه الضمانات ‏التي تسعى اليها سوريا هوية الرئيس المقبل للبنان كونه لعدم الانقلاب على حلفائها في ‏لبنان وضمان حضورهم السياسي. وبالتالي الدخول في مفاوضات ستأخذ وقتها مع واشنطن لوصول ‏رئيس جديد سيقف على خطر الثلاثي الاميركي ـ السوري ويعمل وفق برنامج هذا التفاهم في ‏المرحلة المقبلة. رئيس يقف على التقاطع الاميركي ـ السوري ولو بحصة اميركية طاغية.‏
ومن ضمن هذا المفهوم ارتكب العديد من اقطاب الاغلبية النيابية اخطاء فادحة، تجاوزت ‏الحدود المطلوبة لدورهم ربما لتسرع في قراءة الواقع السياسي.‏

ذلك ان خوض البعض معركة رئاسة الجمهورية من زاوية داخلية بحتة، كان من باب البراءة لا ‏بل السذاجة السياسية، مع كل ما رافق ذلك من تحديد مواعيد وتواريخ.‏
فالواضح ان مرحلة التفاوض هذه ستأخذ وقتا سيسمح للرئيس لحود باكمال ولايته.‏
وربما لذلك لم تؤدّ التحركات التي جرت لزحزحة لحود عن قصر بعبدا. لا بل ان هذه التحركات ‏ادت الى عكس المطلوب ان من خلال السطحية في التعاطي السياسي التي احاطت البعض او من خلال ‏ضرب مصداقية بعض نوابهم، مثل اقرار البعض بالخضوع للضغوط في موضوع التمديد واستمرار ‏هؤلاء في مواقعهم النيابية رغم اعترافاتهم والتي شكلت ضربة معنوية لهم.‏

لا بد ان النائب وليد جنبلاط والذي اضطلع بدور الهجوم السياسي على سلاح حزب الله بهدف تحديد ‏دوره، شمل بهجومه النظام السوري وتوغل بعيدا ليصل الى حدود طرح تغيير هذا النظام. طبعا ‏لم يكن جنبلاط مشوشا في هجومه هذا، بل انه حاول ان يوسّع دائرة المعركة ودفع المجتمع الدولي ‏للتورط في هذا البعد، ربما من ضمن حساباته الامنية الشخصية. لكن حسابات الدول غالبا ما ‏تكون واضحة ومحددة ومدروسة وبالتالي لا مجال لأي استدراج خارج نطاق مصالحها.‏
لذلك مرّ جنبلاط بمرحلة من اللوم تجاه ما طرحه، لا سيما وان ملف النظام في سوريا غير مطروح ‏جديا على بساط البحث.‏

وتقول المعلومات ان احدى العواصم العربية الكبرى لوّحت لقوى الرابع عشر من اذار بقطع ‏إلاتصالات معها في حال لم تقم بالضغوط اللازمة لثني جنبلاط عن هجومه باتجاه النظام السوري.‏
وحسب المعلومات ايضا فإن وزير الاعلام غازي العريضي زار الرياض من اجل اعادة تحسين علاقة ‏جنبلاط بالمملكة العربية السعودية.‏
الا ان العريضي سمع انزعاجا واضحا لدى القيادة السعودية التي رأت ان سكوت جنبلاط الان ‏ليس كافيا بل ان المطلوب منه الادلاء بمواقف سياسية تشكل تراجعا عن السقف الذي كان طرحه ‏ولهذا الامر بدا جنبلاط في المرحلة الاخيرة ساكتا في الملف السوري.‏
ولكن الاهم الآن، هو التحضير الاميركي لمواكبة المفاوضات التي ستبدأ بين واشنطن ودمشق حول ‏المرحلة المقبلة.‏

والمفهوم هنا بموضوع التحضير هو من خلال تحضير وتجهيز مجالات الضغط على دمشق كي تعطي اكثر ما ‏يمكن بأقل ثمن ممكن.‏
اولى وسائل الضغط ستكون من خلال لجنة التحقيق الدولية. وحسب معلومات اكيدة فإن اللجنة ‏برئاسة القاضي براميرتز تستعد لفتح الملف على مصراعيه خلال الايام القليلة المقبلة. ‏وستتحرك اللجنة لتستمع الى الافادات في لبنان وسوريا على السواء بعد مرحلة طويلة من ‏الهدوء. وحسب مصادر موثوقة فان اللجنة ستبدأ من ملف الشاهد زهير الصديق وهي على قناعة ‏بأن هذا الشاهد المزيّف قد ادلى بافادات متناقضة مرتين.‏

وعلى الموجة نفسها سيجرى الاعلان قريباً عن تحديد قبرص كمكان لعقد المحكمة الدولية للبت في ‏ملف اغتيال الرئيس الحريري. وسيجرى تعيين قاضيين لبنانيين في هيئة المحكمة احدهما يتابع هذا ‏الملف مباشرة في لبنان الآن.‏
ولذلك سيعاود هذا الملف وانطلاقاً من عمل لجنة التحقيق احتلال موقع الصدارة في وسائل ‏الاعلام، وسيشهد هبات ساخنة واخرى باردة، ولكن بهدف مواكبة المفاوضات التي ستبدأ بعيداً ‏عن الانظار بين واشنطن ودمشق والتي لن تكون طهران بعيدة عنها.‏