محمــــد ح. الحـــــاج

قبل حين ، أذاعت فضائية الجزيرة برنامجاً حول ما أطلقوا عليه ( كوردستان ) .. أي أرض الكورد، وذلك في سياق حرص هذه الفضائية على المزيد من الانتشار الأفقي وعلى قاعدة الرأي والرأي الآخر ، بغض النظر عن حقائق التاريخ والجغرافيا، وبالمطلق .

من حق فضائية الجزيرة، وغيرها ، أن تتصدى لنشر مواد تثير الانتباه والجدل، وتثير الكثير من التساؤلات والردود وما يترتب على ذلك من اتصالات واستقطاب وحوار مع المشاهدين وهذا غاية كل المحطات الفضائية وقد لا يعلم الناس جميعاً أن ما يدفعونه من أموال لقاء مكالماتهم الهاتفية ، يذهب بعضه إلى تمويل برامج المحطات الفضائية ، وهذا ليس موضع تعليقي .

الخريطة التي عرضتها الفضائية المذكورة تمتد من شمال غرب إيران وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط في الاسكندرون ، وهي تضم شمال العراق وجنوب وشرق تركيا ، وشمال سوريا بما في ذلك حلب ولواء الاسكندرون وخليج السويدية والبوابات الكيليكية ...! وبالعودة إلى المراجع التاريخية المتوفرة وكتب الأبحاث حول شعوب منطقة الشرق الأدنى، منذ ما قبل المسيح وحتى اليوم ، لم تقع عيني على خريطة بمثل هذا الحجم، ولا ذكر لشعب بهذه التسمية ، خارج الهضبة الإيرانية في الشمال الغربي .

لنبدأ من ألف باء القضية وحسب الوثائق والوقائع ،.. الشعب الكوردي هو بالأصل واحد من الاثنيات الفارسية، بل هو فارسي فعلاً منذ ما قبل إمبراطورية قورش ، وأما المنطقة التي كانت تضم هذه السلالة فهي الهضبة الشمالية الغربية من إيران، ولم يكن لهم كيان خاص، أو أي شكل من أشكال الدولة مثلهم مثل أي جزء من شعوب المنطقة والمناطق المجاورة وصولاً إلى الصين ، وأما انتشارهم الحالي فله عدة أسباب ، وعبر مراحل متعددة .

بداية الانتشار الكردي – الفارسي كان مع بداية الغزو الفارسي للمنطقة المجاورة إبان الحروب الفارسية – البابلية ، ومعلوم أنه بعد الحروب والاجتياحات التي تحصل ، يتخلف الكثير من البشر في الأراضي التي وقعت عليها المعارك، وهذا أمر طبيعي، وللمثال فقط هناك عشرات القرى من الأصول التركمانية، والشركسية على أراضي بلاد الشام ، لكنهم يحملون الهوية المحلية ويشعرون بالانتماء الفعلي لهذه الأرض التي يملكون الكثير منها، كما غيرهم من أبناء الهجرات الأخرى من الأرمن والألبان وغيرهم وخصوصاً الكورد .

بعد الفتح الإسلامي، وفتح ما كان يعرف بخراسان وبلاد الأعاجم، دخلت الكثير من القبائل في الدين الجديد، ومنهم الأكراد ، ولأنه لم يكن هناك اعتبار للحدود وخاصة حدود انتشار الدولة الإسلامية ، فقد حصلت هجرات عديدة في صفوف القبائل الكردية باتجاه الشمال العراقي، وأعالي الفرات ( المناطق الجنوبية الشرقية من تركيا الحالية وكلها كانت تابعة لأراضي بلاد الشام – وذكرها التوراة على أنها فدان آرام ) التحاقاً بمن سبقهم ، هذه الهجرات قامت بسببها حروب محلية صغيرة عديدة ومتكررة بينهم وبين السكان المحليين من الكلدو آشور الذين كانت لهم مملكتهم وملوكهم ومن يرجع إلى تاريخ المنطقة يتأكد من ذلك ، وقد كتب في هذا الموضوع كثيرون سواء من المؤرخين الأجانب، أو أبناء المنطقة.

الانتشار الكردي الأكبر في تاريخ المنطقة كان مع مجيء العائلة الأيوبية انطلاقاً من شمال العراق إلى شمال سورية بقصد توحيد الممالك والدويلات القائمة وتحرير القدس ، وليس خافياً أن صلاح الدين وعمه أسد الدين شيركوه وباقي العائلة الأيوبية هم من أصل كردي، لكن أحداً في ذلك الزمن لم يكن يطرح هذا المنطق، وهكذا ودون العودة إلى تفاصيل تاريخ تلك الحقبة ، نعرض لنتائجها وهي وصول صلاح الدين والكثير من أبناء قبيلته وجنده إلى مصر مروراً بالشام ولبنان وكل المنطقة، ولأن عملية الفرز القبلي والعشائري لم تكن في الحسبان فإن الأكراد انتشروا في كل بلاد المسلمين ، في دمشق وحمص، وحماه وحلب وبيروت وطرابلس واللاذقية ، عدا عن انتشارهم في كل مدن العراق .

من ينظر بواقعية ومنطق عقلاني إلى هذا الأمر لا يمكنه مجرد التفكير بطرح القضية على أنها قضية شعب متكامل بخصائص مميزة ، وأنه تحت الاحتلال ، فالأكراد كغيرهم من شعوب المنطقة ، قبائل وعشائر مختلطة ومنتشرة، ويأخذون هوية الأرض التي يقيمون عليها حسب التقسيمات الجغرافية الحديثة ، التي أفرزتها مصالح الدول العظمى وما تقرره في هذا الشأن ، وإذا نظرنا إلى اللغة الكوردية وجدنا أنها واحدة من اللهجات المحلية الفارسية- الشرقية ، وتستخدم الحرف العربي ، وكان مثلها كمثل التركية ، وقد لا نفاجأ في المستقبل القريب بمن يخترع أبجدية على الطراز الأوروبي للغة الكوردية ، تماماً كالخريطة التي يتم تداولها وهي تضم مناطق معروفة تاريخياً بأنها أقدم من كل ما هو قائم على ساحة الحاضر، ثم أن لواء الاسكندرون ومناطق كيليكيا لم يدخلها الأكراد إلا في العصر الحديث، ويشكل انتشارهم فيها أقلية ضئيلة ، ومعظم سكانها من الشيعة الذين يعودون بجذورهم إلى مناطق بلاد الشام وامتدادهم جنوباً حتى طرابلس الشام عبر سلسلة الجبال المعروفة بجبال السماق ( جبال العلويين ) ، وشرقاً حتى حلب ، في حين كانت أراضي الجزيرة وصولاً إلى الموصل هي أراضي الكلدان – السريان السوريين – سكان المنطقة الأصليين، وقد كانت مناطقهم شبه نقية من الغرباء ، وقد جاء الانتشار الكردي عبر سنوات طويلة إبان الحكم العثماني كنتيجة للهجرات الكلدو- آشورية من أبناء المنطقة باتجاه أوروبا، والكثير من تلك الهجرات كانت بتشجيع من قناصل دول الغرب، ومن جانب آخر نتيجة لما وقع عليهم من ظلم وقسوة ، وهكذا وصلت المنطقة إلى شبه أغلبية كردية ناشئة، تضخمت في العقود الأخيرة كنتيجة حتمية للحروب القائمة ضمن الأراضي التركية والهجمات التركية على الأراضي العراقية وكان من نتيجة ذلك مئات ألوف النازحين الذين لا يحملون أية هوية، وبعضهم أتلف كل الوثائق التي كان يحملها ( أكثرها تركية ) .

التسامح السوري، والمعاملة الإنسانية التي قوبلت بها الهجرات الكردية نتيجة الاضطهاد في دول الجوار، أو بدافع البحث عن العمل، أو الالتحاق بعائلات الأقرباء ، لم تعط النتائج المتوخاة منها، وإذ يعترف الأكراد من حملة الجنسية السورية – وهم بالاعتبار الوطني سوريين تماماً لهم ما لغيرهم من أبناء الأمة والوطن، وشعورهم وولاءهم تجاه سوريا ليس موضع شك ، فإن من الوافدين من لا ينظر إلى الأمر كذلك، وهم بدوافع خارجية وتحريض دولي، يتخيلون أن مجرد رسم الخريطة وتعميمها، والدعاية لها كفيل بأن يقنع العالم أن هناك دولة تحت الاحتلال اسمها كوردستان ، تمتد من إيران وصولاً إلى الأبيض المتوسط وهي الأرض " التاريخية " للشعب الكردي برغم انتفاء الدلائل التاريخية على أن هذا شبه حقيقة .

لو أمعن هؤلاء التفكير قليلاً وأجروا مقارنة بسيطة لتبين لهم أن في دمشق لوحدها من الذين ينتمون إلى أصول كردية ما يزيد عن عدد كل سكان الجزيرة والشمال من الأكراد، فهل يجب أن تدرج دمشق في خريطة " الدولة الكوردية" ..؟ أم يطمحون إلى تهجير هؤلاء على قاعدة الفصل العرقي لإقامة الدولة على غرار الدولة اليهودية ..؟؟ كما أن في ألمانيا جالية تركية، وأخرى كردية، كبيرتان لدرجة يمكن لأي منهما الادعاء بأن الأرض التي يعيشون عليها هي أرض إما تركية، أو كردية ..!! وعهدنا حسب منطق التاريخ أن الأرض تعطي لكل موجات الهجرة هويتها الجديدة، ولم يسبق أن أعطى شعب هويته للأرض التي يعيش عليها فيما لو كان مهاجراً ، وهكذا نجد الملايين من العرب في أوروبا، وأمريكا، يحملون هوية الأرض التي يعيشون عليها، ومثلهم من الأوروبيين والأفريقيين، والآسيويين سواء في أمريكا، أو أستراليا ، وها أبناء سوريا من الكلدو- آشور، وغيرهم، الذين هاجروا إلى السويد ودول أخرى ينتمون إلى الأرض الجديدة، ويعتزون بأصولهم وموطنهم الأصلي، لكنهم لا يدعون بأن السويد يجب أن تصبح سوريا الجديدة، ولا شيكاغو أو لوس أنجلوس أو سيدني وملبورن , كما لا يمكن لمجموع من هاجروا من بلاد العرب الادعاء بأن الأراضي التي يعيشون عليها أصبحت " عربستان ".

العرق أو اللغة لا يشكلان أساساً لبناء قومية، فهناك من المقومات الأخرى الكثير، الذي تحتاجه القومية لتكتمل، من ذلك البناء الحضاري التاريخي، دورة الحياة الاقتصادية – الثقافية، والتراث ، والوحدة البيئية ضمن حدود أوجدتها الطبيعة كالموانع الطبيعية ، والكثير من الأمور الأخرى، ونرى من وجهة نظر أن كل ذلك متحقق في بلاد الشام – سوريا الطبيعية، وأن كل الاثنيات، والأعراق التي تضمها هذه البيئة تشكل وحدة قومية – وطنية متكاملة ، ولكل مواطنيها نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وإذا كنا نقف إلى جانب كل من يطالب بحقه أسوة بغيره من أبناء الوطن فنحن لا ننكر على أي مواطن حقه في الجنسية طالما استوفى شروط الإقامة ، ومعلوم أن هناك قوانين في كل دول العالم تحدد مثل هذه الشروط ومنها على سبيل المثال الإقامة الدائمة لمدة لا تقل عن خمس سنوات، عدا عن أن كثير من دول العالم تمنح جنسيتها للمولود على أراضيها أو في أجوائها ... الخ ، وهذا يعني اعترافنا بحق كل كردي، أو من أية اثنية أخرى بأن يحمل جنسية الأرض التي اختارها للعيش .

لا تكاد دول المشرق العربي تخلص من مشكلة إلا ويخلق لها عالم الغرب قضية جديدة، وهذه القضية الجديدة أشد خطراً ليس على منطقتنا المشرقية فقط ، ولكن على الشعب موضوع القضية ، والذي قد يتعرض لمخاطر غير محسوبة، فهناك أربع دول ، لا بل خمس لا تقبل بمثل هذا الطرح لأنه يجتزئ من حدودها الاقليمية القائمة، ويؤدي إلى خسارتها لبعض أراضيها ، فلا إيران تقبل بانفصال الهضبة المسماة كردستان ( أرض الكورد ) التي هي منبتهم وأرضهم الأصلية لأنها تعتبرهم مواطنين وهم كذلك فعلاً، وما قيام جمهورية مهاباد لحين من الزمن إلا لعبة أمم تداخلت فيها مصالح الدول العظمى، ولم تتحقق الخسارة إلا بين الكورد كونهم كانوا أداة المناكدة ( الصراع ) بين الشرق والغرب، ولا العراق يقبل بانسلاخ شماله حتى ولو مضى على الوجود الكوردي فيه مئات السنين لأن في تلك الأرض مواطنين من غير الكورد كذلك، والحال نفسه في تركيا، وأما هنا في سوريا فإن الأمر أكثر تعقيداً ، فلا الكورد مجتمعين في مكان واحد، وليست لهم ملكية معروفة ومحددة وحصرية في مناطق الجزيرة، وأغلب ملكية الأرض تعود للدولة، وهناك أملاك المهاجرين السوريين وكثير منهم لا زال يحمل سندات ملكيته، وأراضيه تدار من قبل الغير. كما أن أحداً من التاريخيين لم يذكر أن هذه الأرض مسماة باسم الكورد ، وكل ادعاء لاسند تاريخي له هو ادعاء ساقط .

اللغة الكوردية لغة تراثية، ومن حق أبناء الكورد تعلمها وضمن مناهج دراسية خاصة بهم، وأيضاً لمن يرغب تعلمها، حتى لا تنقرض كما شارفت السريانية، والآرامية على الانقراض، لكنها لا يمكن أن تكون لغة رسمية، ونتفهم سبب السماح بتعليم الأرمينية وغيرها ضمن المدارس الخاصة، ومنع تعليم الكوردية، فالأرمن أو غيرهم من الاثنيات المهاجرة لم تطرح قضية انفصال جزء من الوطن كما تطرح بعض الفئات الكوردية، ومع ذلك فالكثير من أبناء الأمة يقفون إلى جانب قضية المطالب الكوردية تحت سقف الوطن، بما في ذلك تعلم اللغة وتعليمها، وكما أن سكان بلاد الشام لم يقفوا من اليهود موقفاً عدائياً إلا بعد انخراط معظم هؤلاء في لعبة الأمم التي استهدفت إقامة جسم سرطاني في قلب أمتنا، فإنه لا يوجد موقف عدائي تجاه الكورد الذين هم من أبناء هذه الأمة، ولا نقبل الانتقاص من أي حق من حقوقهم، سواء في توزيع الأراضي أو الملكيات أو الهوية، أو فرص العمل، وفي كل الحقوق، كما أن عليهم نفس الواجبات، ولا يجب أن يكون هناك فرق بين سوري وآخر إلا بمقدار ما يقدم من خير للوطن ، ونؤكد في هذا المقام على أننا كسوريين، لم نلمس أي تمييز ضد الأكراد لصفتهم العرقية، ويشهد على ذلك أسماء شخصيات كبيرة كان لها شأن في العمل والقيادة الوطنية والمناصب على اختلاف مقاماتها .

إن خير ما يمكن التوجه به لإخوتنا من قادة الأكراد في كل مكان : لا تسمحوا لأحد بالمتاجرة بقضيتكم، وخاصة قيادات الدول الكبرى، فالشعوب الصغيرة لم تزل وقود معارك الكبار وأول ضحايا صراعاتهم ، وخير ما تقدمونه لأبناء عائلتكم الكوردية الكبيرة هو الحرص على الانتماء الوطني، فنحن أيضاً نجد أن الانتماء الأول هو للوطن، ويستمر بيننا وبين إخوتنا من العرب في الدول الأخرى رباط الأخوة والألفة ولا نقبل القول أن عربيا من أي كيان آخر هو أفضل من سوري لمجرد كونه كوردي أو أرميني أو غير ذلك ، فسوريتنا أولاً، - ليس بالمعنى القطري .

وأما ما يمكن التوجه به لمن يحاولون زج الكورد في معمعة صراع قد يطول قروناً، فهو أن يتوقفوا عن هذه اللعبة الخطرة، حتى لا يصلبوا الأكراد على خشبة مصالحهم .