تتميز المجتمعات الإنسانية بميزات، ثقافية وسياسية واقتصادية وتاريخية، ولها أنماط معينة في الإنتاج المادي والثقافي، قد تتشابه أو تختلف باختلاف النظام السياسي والاجتماعي القائم. كما تتميز نظمها السياسية بإنتاج أنماط معينة من الخوف، اذ يمتلك النظام السياسي – بحسب الفيلسوف ميشال فوكو - مكونات تدبير الخوف والرعب، وتوزيعهما بنسب ووتائر فارقية، ما يسمح بالقول ان النظم السياسية والاجتماعية تنتج أنماطاً معينة من الخوف، وبما يشبه إلى حدّ بعيد أنماط إنتاجها للخيرات وللحقائق.

ولا يُفهم نمط إنتاج الخوف وتدبيره بعيداً من نمط إنتاج الخيرات المادية؛ إذ يقتضي تدبير الثروات ومراكمتها التخويف والترهيب، وتشييد السجون وأجهزة الضبط والمراقبة والعقاب، وبالتالي تجهيز الحدود الفاصلة بين السلطة والثروة وسبل حمايتمها. وكان الفيلسوف توماس هوبز اعتبر الخوف كامناً في عمق الوجود الجماعي الإنساني. وإذا كان التعاقد الاجتماعي يؤّمن، من حيث المبدأ، نوعاً من السلم، فإن تفاصيل الانجاز وأقلماته تبقى مقلقة ومحرجة. علماً بأن الوضع في المجتمعات التي تسودها أنظمة هيمنة شمولية أو استبدادية أصعب بكثير من الوضع الذي نظر فيه الفيلسوف هوبز، إذ يسود فيها نمط فريد من القمع والاستبداد، وليس فيها تعاقد اجتماعي بالمعنى الحديث، فالمواطنة غائبة، والحقوق مصادرة، والحاكم يملك سلطة مسلطة على رقاب العباد وفي متناول يده كل مقدرات البلاد.

ويرتبط الخوف في عالم اليوم بالسياسة وبالرغبة في السيطرة، ويتمظهر في أشكال عدة: الخوف من حاكم مستبد أو من حكومة ظالمة، أو من زوجة مسيطرة، أو تلميذ مناكف، أو لص أو مجرم أو عصابة، أو من خرق القانون، أو التخلي عن مبادئ اخلاقية. ونشأ في أيامنا هذه الخوف من الدمار الذي يجلبه الاحتلال والخوف من الإرهاب، لتتعدد تجليات ظاهرة الخوف وتمظراتها بتعدد الأنظمة السياسية والاجتماعية وباختلاف الأماكن والعصور.

ويفسّر الخوف بوصفه استجابة طبيعية للنزعة الحيوانية للسيطرة. بمعنى أن الخوف يواجد حيث توجد إرادة السيطرة والاستحواذ، وبالتالي هو نتاج لعلاقات القوة في المجتمع الإنساني، ونخص بالذكر الخوف السياسي. لكن ظاهرة الخوف ترتبط بمدى التطور الاجتماعي، بحيث يمكن للإنسان التخلص من الخوف بالتخلص من رواسب اللاوعي الجماعي الإنساني، وذلك عبر إقامة مجتمع أكثر إنسانية وإنصافاً للبشر ومتحكم بقوى الطبيعة. ولا شك في أن أي إنسان يمتلك في داخله قدراً معيناً من محركات الخوف ومحرضاته، كالخوف من الموت والخوف من اللا متوقع أو الخوف من المجهول...إلخ، وتتجسد مركباته إلى مشاعر تختلج داخل النفس الإنسانية، وبازديادها تتراجع مشاعر الجرأة والشجاعة والحكمة والحبّ والودّ وسواها.

ويغدو الخوف ثقافة في المجتمع عندما تتضافر جملة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية. ففي بعض بلداننا العربية، حيث القمع والاستبداد يبلغان درجات قصوى، ينتشر الخوف ينتشر بشكل عاموي وأفقي في المجتمع، وتعمم ثقافته ومظاهره على الأفراد والجماعات، بحيث يُنتج بوصفه مكوناً أساسياً من مكونات الحياة، وثقافة سائدة. فالخوف يبدأ مع الطفل الذي يتجرعه مع الحليب، ثم يترافق من الأب والأخ الأكبر والعائلة مع الخوف من معلم المدرسة وعقاب مديرها ومن رجل الأمن أو الشرطي أو حتى من المخبرين والأزلام. وينمو الخوف من التقاليد الاجتماعية والدينية، خصوصاً الخوف من التكفير ومن عذاب الآخرة ومن نار جهنم، والخوف من قوى المجتمع ولسانه وعيونه، ليتكلل مع الخوف من السلطة والنظام السياسي الحاكم.

وتتحدد ثقافة الخوف بوصفها منتجاً من منتجات الاستبداد والقمع المرافقين للسلطة بوجهيها، السلطة السياسية والسلطة الدينية، إذ يدخل الفرد والمجتمع في دوامة من الرعب، يحدوها الخوف من القوة ومن البطش والملاحقة والإقصاء، ويغدو الفرد فاقد الكرامة والشخصية أمام رعب القوة، فلا يشعر إلا بالخواء والدمامة والفقر. ومن الطبيعي أنه حين تنعدم الحريات أو لنقل حين تسلب الحريات فلا مفر من سيادة العتمة والظلام، التي تكثر في ظلهما الاشاعات والخرافات والأقاويل، ويتناسل الوشاة والمخبرين والدساسين ومنتجي المؤامرات ومسوقيها.

ويسود جوّ من الشك والريبة من القريب والبعيد في ظل سلطة الاستبداد، ولا يتوقف الأمر على عامة الناس، بل يطاول الحاكم ذاته، اذ يتحول إلى أسير لإرادة القوة التي يظن أنها تحميه، فيفقد الثقة بجميع من حوله، حتى أقرب المقربين منه، لذلك يتحولون جملة من المخبرين على بعضهم بعضاً. وكما أشار عدد من الفلاسفة والحكماء فإن قوة الحاكم المستبد تغدو نتاجاً لضعفه ولشهواته ورغباته وميوله العدوانية في الهيمنة والسيطرة.

ولا شك في أن انتشار ثقافة الخوف وضعف ثقافة الحريات وثقافة الحقوق ينعكس كله بشكل مباشر على تحديد التخوم الأخلاقية والقانونية للنقد والرفض والمساءلة، فنحن نعيش في مجتمع يتداخل فيه الديني والدنيوي، كانعكاس مباشر لتأميم السلطة التنفيذية ومصادرتها لغيرها من سلطات الدولة ومحاولة أطراف دينية متعددة فرض حال من الاستعلاء في الخطاب والقانون على الدنيوي والمعيش.

وفي ظل اختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم في بلداننا العربية لصالح الحاكم فإن المسؤول لا يسأل عن أفعاله، اذ يمنع السائل من حق السؤال والمساءلة، بل ومن أبسط حقوق المواطنة وحقوق الإنسان كما أقرتها الأعراف الدولية.

وقد شهد الواقع العربي مرحلة بناء الدولة بعد مرحلة الاستقلال في أشد صورها المشوهة، فلم تكن تعاقدية بالمعنى المعروف للتعاقد، اذ لم تمثل الدولة – في أغلب المواقع - مصالح المجموع العام لمواطنيها بمختلف شرائحهم وفئاتهم، ولم تتأقلم كمفهوم حديث في واقع كل بلد عربي، أي لم يتأرضن مفهومها بمعناها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. لذلك جرت عمليات تعطيل المجتمع على حساب بناء سلطة الدولة في أشد صورها الإكراهية والقمعية، والتي استولت على هرمها ومؤسساتها النخب العسكرية والبيروقراطية ذات التوجه التغييري الانقلابي. وعليه جرت عمليات بناء وتقوية سلطة الدولة كقوة مطلقة ومتعالية، كما جرت عمليات تُماهي بين السلطة التي تمثلها النخب العسكرية أو الحزبية ورموزها الكاريزمية وبين الدولة، وكذلك جرت عمليات ألحقت بمقتضاها مؤسسات الدولة وأجهزتها بأجهزة السلطة الحاكمة

وكبحت طاقات القوى الحيّة في المجتمع، فحضرت السلطة في كل مفاصل حراك المجتمع وعملت على السيطرة عليه وتسخيره في خدمة توجهاتها ومصالح أفرادها. وشُخّصت رموز السلطة في أقسى صور الشخصنة كاريزمية، وسُوقت الطقوسية واحتكار القرار ضمن عملية إعادة إنتاج جديدة لثنائية: السلطة / الرعية. وهُندست مشهديات جعلت من السلطة كائناً ميتافيزيقياً متعالياً، بعيداً من المراقبة والمحاسبة والمساءلة. ولجأت قوى السلطة الأمنية والعسكرية إلى تسخير كل أفراد المجتمع في خدمتها، ومن يخرج عن هذا المسعى يلاحق، أو يعتقل، أو يصفى. وتفاقم هذا الوضع حتى أصبح أي فرد من أفراد الرعية يتساءل عما تريده السلطة منه، فيحاول اللجوء إلى الغرف المعتمة أو يحاول نيل رضاها كي لا يناله بطشها أو غضبها، وبهذا تحولت ثقافة الخوف عاملا موحدا لجميع المحكومين في دول الخوف.