كل مسلم هو مسلم بالضرورة، لكن ليس كل مسلم إسلامياً بالضرورة!

وكل «علماني» هو «علماني» بالضرورة، لكن ليس كل «علماني» هو غير مسلم بالضرورة.

ولفهم هذه الفذلكة المنطقية، ينبغي أن نحدد من هو المسلم؟! ومن هو الإسلامي؟! ومن هو «العلماني»؟!

المسلم: كل من يدين بالإسلام.

الإسلامي: الذي يتخذ الإسلام مرجعية ثقافية ـ إيديولوجية لأفكاره.

«العلماني»: هنا المشكلة!! فـ«العلمانية» أحد أكثر المصطلحات، الدخيلة على اللغة العربية، التباسا وإلباسا. وتبدأ المشكلة، ابتداءً، مع الترجمة الخاطئة لمصطلح Secularism اللاتيني الأصل، إلى اللغة العربية، بمفردة «العلمانية»، بكسر العين، نسبة إلى العِلم، وليس العالم.وبالتالي فإن المفردة العربية الاشتقاقية، محمولة على الالتباس، في مبناها ومعناها، بين العلم والعالم (=الدنيا).

وسواء قصد المترجم العربي بـ«العلمانية» تفسير المفهوم الأجنبي على أنه يعني العالم أو العلم، فإنه لا العالم ولا العلم يفي تماما بتفسير المفهوم المعرفي لمصطلح Secularism. وقد جرت ترجمة المفهوم إلى العربية بـ«الدنيوية»، إلا أن معناها الحرفي يزيد الطين بله، إذ يدخلها في شبهة الإلحادية، في نظر التفسير الحرفي للإسلام بصفته دينا ودنيا.كما جرت محاولة تصحيح ترجمة «العلمانية» باستبدالها باشتقاق: «اللائكية». لكنها لم تغير من دلالة المفهوم شيئا. فقد ظل المفهوم يحمل التباساته حول المعنى الغربي، الفرنسي تحديدا، بمعنى الدلالة: «على نظام التفريق بين الدولة والكنيسة كما حدده القانون الفرنسي الصادر سنة 1905 وهو نظام يمنع الدولة من التدخل في شؤون الكنيسة ويمنع الكنيسة من التدخل في شؤون الدولة. ويعتبر هذا النظام حلا ديمقراطيا ممكنا لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة. ولكنه ليس الحل الديمقراطي الوحيد..».

وفي كل الأحوال فإنه لا معنى سوسيو ثقافي ـ تاريخي لتفسير الواقع، العربي الإسلامي، الاجتماعي- الثقافي التاريخي، اعتمادا على مصطلحات مسقطة عليه من فضاء مغاير، تاريخيا ـ سوسيو ثقافيا.لكن ذلك لا يلغي النظر في تاريخ الفكر الإسلامي، وفلسفة علومه، لاستقراء مفهوم العلاقة ما بين الدين والدنيا، الدين والسياسية، الدين والسلطة.وبالتالي فإن معالجة إشكاليات الواقع التاريخي للاجتماع الإسلامي، تعتمد، في الجوهر، على معطيات خطابه الثقافي الخاص، دون أن يمنع ذلك الاستعانة بالأدوات المنهجية الإبستمولوجية العلمية المتقدمة، غربا، من تاريخانية، وانثربولوجية وبنيوية والسانية.. وعلى أساس أن شجرة «العلمانية» الغربية لم تسقط من ولا شيء لتنزرع متكاملة في ثقافة الغرب واجتماعه السياسي- الاقتصادي. فإذا كان الفكر الغربي هو الذي سقاها ورعاها وحماها وقطف ثمارها.فإن البذرة كانت، في الأصل، تصور فكري إنساني، تناولها الفكر الإغريقي.ثم تحولت بفكر ابن رشد إلى مشروع فلسفي، كما جاء في كتابه: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».

لقد حاول ابن رشد (1126ـ1198) إنبات مشروعه الفلسفي العقلاني في تربة الثقافة الإسلامية، لكنها كانت تربة إبستمولوجية معادية تماما للفلسفة والعقلانية.لأنه عاش، واشتغل فكريا، ما بين أواخر سنوات دولة المرابطين الأصولية المتزمتة، وبدايات انحطاط دولة الموحدين.وكان من حسن حظ ابن رشد، والفكر الإسلامي، أن قام السلطان المستنير «أبي يعقوب يوسف» على حكم دولة الموحدين لمدة عقدين.لكن الاستنارة انطفأت مع حكم خليفته، السلطان «المنصور أبي يعقوب»، الذي نفى ابن رشد، وحرق كتبه، وأصدر مرسوما سلطانيا بتحريم الحكمة (الفلسفة) والعلوم العقلية، ما عدا الطب والنجوم والحساب.

وإذا كان مشروع ابن رشد، الفسلفي العقلاني، قد ذبل في الثقافة العربية، وأصبح تبنا للحمير؛ فإنه نما في الثقافة الغربية المسيحية الإصلاحية، حتى صار من مكونات ثمرة الحداثة.

ومنذ تجربة ابن رشد، لم يظهر الفيلسوف الإسلامي العقلاني، إذا استثنينا محمد أركون، الذي يغطي أسئلة إشكالية العقل والإيمان في فضاء الفكر الإسلامي، دينا ودينا، دينا وفلسفة، دينا ودولة، بمفهوم فلسفة علوم اليوم، ومناهجها.وكيف للفيلسوف الإسلامي الحداثي الغائب أن يظهر، والشيخ القرضاوي يلاقي التكفير، رغم وسطيتها التبسيطية، التي لا تخرج عن كونها سلفية مُحسنة.بينما محمد أركون يفكر في الإسلام باللغة الفرنسية. ولازال فكره التنويري الفذ قاصرا عن الانتقال بمفهوم «الميث» الغربي، الأنثربستمولجي، إلى محله النظير في الفكر العربي!

والحاصل، كي يحظى مفهوم «الميث» بالاعتراف العلمي الفكري، يحتاج التفكير الإسلامي العام إلى إنجاز استحقاق الدولة الديمقراطية أولاً، بحسبانها مفهوماً حضارياً شاملاً: سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي. وليست مجرد صندوق اقتراع.وأن تتأصل الديمقراطية، سياسيا- اجتماعيا- ثقافيا، في بنية تفكير إسلامي عام متحرر من عقدة كون الديمقراطية حكرا، فقط، على الغرب وثقافته.أي تفكير عام لاجتماع إسلامي متحرر من حصر الديمقراطية في الحرية الليبرالية، في نطاق حرية الاجهاض، أو زواج المثليين..

أتحدث عن تفكير إسلامي عام مدرك أن الشورى ليست سقيفة بني ساعدة، التي لم تدم سوى ساعات معدودة.وليست مجالس الشورى المُعيّنة.ولا هى البرلمانات الديكورية الملفقة.إنما هي طريقة تفكير وحياة، مبناها الإرادة الحرة.

إن الدولة(الإسلامية) التي تبني تسييرها السياسي على قاعدة التداول السلمي على السلطة، في مناخ من التنافس الانتخابي الحر النزيه بين برامج حزبية وأفكار فردية مستقلة، تحكم بينها أصوات الناخبين الأحرار، تترجم حضاريا المعنى الجوهري لأمرهم شورى بينهم.

وإن دولة العدالة الاجتماعية التي تؤمن التعليم المجاني للجميع، والعلاج الصحي للجميع، وتضمن حق العاطل عن العمل في ألا يجوع أو يتشرد، تترجم تماما، بالمعنى الإسلامي الحضاري، مفهوم دولة الرعاية الإسلامية.

إن الدولة (الإسلامية) التي تطبق جوهر عدالة العقوبات الإسلامية، وفق مقتضيات عقوبات العصر، من غرامة وسجن، أو إعدام، في حالات معينة، مُستدرَكة بدفع الدية، مع احتفاظ الدولة بجزاء الحق العام، تترجم، عصريا، المغزى الإسلامي للقصاص. فلا ضرورة لتحقيق العدالة إقامة حدود الجلد والرجم، في وجود نظام السجون الصارم. دع عنكم أن إقامة الحد على الزانية مشروط بتوافر أربعة شهود شاهدوا لحظة الإيلاج.. ثم لا تنسوا أن الإسلام يسر وليس عسرا.

إن الدولة، التي تقيم عقيدتها العسكرية على أساس التوجه القرآني: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم»، تترجم تماما عقيدة قوة حضارية، تقوم على مبدأ جاهزية الاستعدادية المستديمة. والخيل هنا، في عصرنا: عربات ومدرعات ودبابات... والسيوف والنبال والرماح: رشاشات وقنابل وصواريخ. وأفضل تفسير للآية في عصرنا: أعدوا لهم ما استطعتم من رادع شامل، ورباط صواريخ بالستية، بشرط أن: «لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين..».

والقوة، ليست وحدها القوة الصلبة: العسكرية والاقتصادية والسكانية... ولكنها تضفرها القوة الناعمة: القيم الثقافية الجاذبة، الإنتاج الفكري والأدبي والفني الخلاق، حرية البحث العلمي والفكري، المشروطة بحرية تدفق المعلومات. والإرادة السياسية الحرة، والإدارة الكفء لمجمل دواليب الدولة. إن الدولة (الإسلامية) التي تقر بحق المرأة في التعلم والعمل والدفاع عن الوطن(كانت امرأة التي حمت النبي في معركة أحد)... وضبط تعدد الزوجات بلن النافية، تترجم جوهر الإسلام القرآني، في تفسيره الحضاري، لآيتها: «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم.»... وللمقولة المحمدية: «إنما النساء شقائق الرجال..».

إن الدولة (الإسلامية) التي تقر، وتضمن، وتصون، حرية الرأي والتعبير والمعتقد، تترجم التفسير الإسلامي الحضاري لـ: «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»... «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».... «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»..

إن الدولة التي تحدد الفاصل أو الفواصل، وظيفيا، بين الوظائف الروحية الدينية الشرعية للدين، والوظائف المدنية الوضعية للدولة: هي دولة إسلامية ديمقراطية عصرية بامتياز. دون الحاجة إلى وصفها بالعلمانية أو اللائكية؛ لأن جواز الفصل الوظيفي، إجراء متأصل في الدولة الإسلامية منذ خلافة عمر بن الخطاب. وهو الفصل الذي طال طبيعة إدارة ديوان الدولة والجيش وبيت مال المسلمين، وربط تطبيق قصاص الحدود بمفهوم تحقق العدالة الاجتماعية، وغيرها من إجراءات الدولة المبنية على فقه المصالح المرسلة، وفقه النوازل، وغيرها من القواعد الفقهية العقلانية.

بهذا المعنى أنت مواطن مسلم حر في دولة إسلامية ديمقراطية عصرية!