لا يمكن أن تلام القمة العربية على عدم مجاراتها اللبنانيين في خلافاتهم، إذ ليس من السهل أن تتعامل القمة مع «شرعية» منهارة أو منزوعة أو حتى غير موجودة أصلاً طالما أن هناك رئيساً يدعي تلك الشرعية. وبالتالي فإنه هو، على علاته وبكل لا شعبيته وبسجله العامر بالفشل، من سيمثل البلد. لكن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، بل إنها في المفهوم العام الذي تعامل به العرب مع الأزمة اللبنانية. وهو مفهوم يعاني من مشكلة مَرَضية تكاد تكون «مشكلة عربية» - اسماً ومضموناً - تتمثل بخصام مزمن مع قضايا الحرية والاستقلال ومع كل ما يعبر عن إرادة الشعب. ولو كان الأمر غير ذلك لكانت القمة العربية تنبهت قبل الآن الى وجود أزمة كامنة خلال الوجود السوري في لبنان، ولكانت بادرت الى البحث فيها ومحاولة علاجها. صحيح أن معظم القادة العرب كان مدركاً أن الوضع السوري في لبنان لم يكن صحيحاً ولا صحياً، لا بالنسبة الى سورية ولا بالنسبة الى لبنان، إلا أنهم كانوا يخشون اثارة الموضوع تجنباً للمشاكل، خصوصاً أن البلد المتضرر أولاً - لبنان - لم يكن يهشّ أو ينشّ، بل لا يصدر عنه إلا قصائد المديح للشقيقة سورية.

هناك فهم خاطئ تماماً لدى القمة العربية لما هي الأزمة الراهنة بين لبنان وسورية، وقد ظهر هذا الفهم الخاطئ في الطريقة التي تعامل بها رئيس القمة الرئيس السوداني عمر البشير مع الخلاف بين الرئيس ورئيس الوزراء اللبنانيين، فالأرجح أن البشير لم يدرك الفارق بين الصياغتين المقترحتين للعبارة المتعلقة بـ «المقاومة اللبنانية»، لذلك حسم النقاش لمصلحة الصيغة «الواردة» باعتبارها صيغة يريدها «رئيس الوفد» وصوت الرئيس أعلى من صوت رئيس الوزراء. لكن الفارق يهم اللبنانيين، والصيغة التي قدمها فؤاد السنيورة تقول بحق اللبنانيين (جميعاً) في المقاومة، أما صيغة اميل لحود فتقول إن المقاومة (الموجودة) تعبر عن حق الشعب اللبناني، أي أنه يدافع عن احتكار «حزب الله» للمقاومة، ولأن هذا الحزب يكاد يحتكر أيضاً الاعجاب بالرئيس لحود وانجازاته واصلاحاته والرئيس السابق لحرسه الجمهوري.

أول من امس كان يوم «النرفزة» والمشاجرات والمماحكات. وليس مفهوماً لماذا اطلق رئيس المجلس النيابي نبيه بري هذا الموقف الحاد من السنيورة، فالأخير لم يخالف قرارات الحوار الوطني عندما طرح ما طرحه في الخرطوم، وإذا كان لبري ان يتهم الآخرين فالأحرى به ان يتهم لحود أيضاً او من هم وراء لحود. لكن غضب رئيس البرلمان بدا مفتعلاً ان لم يكن مبرمجاً، فهل بدأ بري يخرج من ثياب الحيادي رئيس الحوار ليستعيد ثوب السياسي المنحاز للتعليمات السورية؟ التساؤل مشروع لأن كل أعضاء الأوركسترا السورية بدأوا يتململون ويتحركون بعدما اقترب الحوار من استحقاقي الرئاسة والموقف من سلاح المقاومة. والرأي السوري هو ان الرئاسة بخير ما دام لحود فيها وان سلاح المقاومة يجب ان لا يكون موضع تداول أو تجاذب أو جدل، كما يحاول السيد حسن نصرالله ان يفهمنا في معظم خطبه، لكنه لم يعد يقنع إلا المقتنعين اصلاً.

التغييرات الاقليمية أوحت لدمشق بأنها تجاوزت العاصفة وبات عليها ان تباشر هجومها المضاد. من اين؟ من لبنان طبعاً. لذلك كبست الزر لأزلامها وبدأت مرحلة تكريس الدور السوري في لبنان ولو من دون الوجود السوري. فهدف دمشق يقتصر حالياً على تجميد أي تغيير في لبنان انتظاراً لنتائج التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولأجل ذلك لم تمتنع دمشق حتى عن اثارة استياء القاهرة والرياض اللتين تحاولان مساعدتها شرط ان لا تعرقل هي الحوار اللبناني - اللبناني، ولا شيء يمنع سورية من حض اتباعها على مواصلة الحوار شرط ان لا يؤدي الى اي نتيجة. وهكذا يبدو كل شيء مؤجلاً حتى الخريف، وإذا كان الأمر كذلك فلا تنحية لحود تستأهل معركة داخلية ولا سلاح المقاومة يستحق ان يكون موضع خلاف إذا برهنت المقاومة انها لبنانية ومن أجل لبنان، وبالتالي فيمضي الجميع صيفاً هادئاً قبل ان يخوضوا منازلة أخرى قد لا تكون سورية فيها في موقع من لا يزال يملي شروطه على لبنان واللبنانيين.