على نقطة الحدود السورية ـ اللبنانية في مركز «جديدة يابوس» وبخلاف الأعوام السابقة، يلاحظ السوري الذاهب الى لبنان واللبناني القادم الى سورية، أن برودة تخيم على حركة الذهاب والاياب بين البلدين، كذلك هي الوجوه تبدو صامتة وحذرة، كما أن صناديق السيارات الخلفية وبخلاف الأعوام السابقة أيضا، أصبحت خالية من البضائع التي يتسوق بها المسافرون من كلا البلدين، فمنذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وما رافق العلاقة الثنائية من تشنج وتدهور، لم يعد المواطن السوري يستطيع أن يتسوق من الأسواق اللبنانية لأن قوات الجمارك على الحدود ستصادر أي شيء يجلبه معه، حتى لو كان صندوقا صغيرا من الشوكولا أو معجون أسنان، كذلك هي أسواق الحميدية والصالحية وسط العاصمة دمشق خلت من المتسوقين اللبنانيين أيام الآحاد الذين اعتادوا المجيء الى الشام لشراء الملابس ذات الجودة العالية والرخيصة بالوقت نفسه، وكل ما يحتاجه المطبخ من بهارات وأعشاب تزخر بها أسواق دمشق القديمة.

ليس هذا فقط، ثمة وجوه في لبنان ما زالت حذرة من «السوري» وتلقاه ببرودة وشك وريبة، حتى المكان والشوارع في بيروت تبدو كذلك، الأمر الذي يجعل السوري يعمل على انهاء زيارته الاضطرارية والعودة سريعا الى دمشق

لكن رغم ذلك يدرك الجميع في كلا البلدين أن ذلك ما هو الا حالة موقتة وستنتهي، وستعود المياه الى مجاريها، ان لم يكن اليوم فغداً حين تنضج الظروف المناسبة و«يلهم الله» المسؤولين في كلا البلدين.
وحقا لم يستطع الزلزال الذي أصاب لبنان وسورية في الرابع عشر من فبراير من العام الماضي عندما اغتيل رفيق الحريري، أن يباعد ما في النفوس والقلوب من هوى متبادل، لقد بدا البلدان كما التوأمين السياميين بعد عملية فكاك قسرية, نعم انها قوانين الطبيعة والجغرافية و التاريخ والثقافة وصلات القربى الضاربة عمقاً منذ آلاف الاعوام.

واليوم ها هي الأخبار تبشرنا أن «مصافحة» حصلت في القمة العربية في الخرطوم بين الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، وقبلها وجه وزير الخارجية السوري وليد المعلم دعوة لنظيره اللبناني فوزي صلوخ لزيارة دمشق، وعليه بدا أن الأيام المقبلة ستحمل جديدا «رسميا» قد يؤدي الى بداية الحلحلة في العلاقة بين البلدين.

في هذا الصد، لا بد من التوضيح أن دمشق أرسلت اشارات ايجابية تدل على نيتها واستعدادها استقبال رئيس الوزراء اللبناني لبحث كل المواضيع وأن «طريقها مفتوح دائما», وهذا يعكس رغبة سورية في تجاوز حالة التوتر و«الستاتيكو» التي فرضت نفسها على البلدين منذ أكثر من عام, في هذا السياق، أيضا ثمة توقعات كبيرة ان تقوم الجامعة العربية او دول عربية مثل مصر والسعودية بتهيئة الأجواء لزيارة ناجحة يقوم بها الرئيس السنيورة لدمشق، للبحث في تنفيذ القرارات التي صدرت عن مؤتمر الحوار الوطني اللبناني لأن هذا يحتاج الى مساعدة عربية لتذليل ما يفترض بلوغ ذلك من عقبات.

لا يختلف اثنان على أن لقاء الفرقاء السياسيين اللبنانيين بمختلف تنوعاتهم هو بحد ذاته خطوة ايجابية على طريق الاستقرار في البلد الذي يعيش منذ أكثر من عام حالاً من المراوحة في المكان بفعل ما خلفته جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري من تداعيات داخلية واقليمية, فالاجتماع بالاجندة التي حملها وفي ما لو تم التوافق عليها من شأنه أن يؤسس لمرحلة جديدة من مستقبل لبنان لا بد أن تنعكس آثارها الايجابية على الجميع، ولعل في مقدمهم اللبنانيين أنفسهم، ثم سورية والعرب عموما.

يجب أن نعترف أن لدمشق مصلحة خاصة كبيرة في ذلك وهي التي تعيش بشكل دراماتيكي تلك الآثار المترتبة على جريمة الاغتيال أكثر من أي دولة اقليمية، كذلك فان نجاح الفرقاء اللبنانيين في الوصول الى قواسم مشتركة يعني في ما يعنيه انتصارا للخيار السياسي على حساب المواقف المتشنجة، وربما المعادية التي نشأت ضدها منذ عام، خصوصا وأن بعض الأطراف السياسية عملت على الاستفادة من المناخ الدولي ومن الضغط الاميركي على سورية تحديدا من أجل تسجيل نقاط جديدة في لعبة الصراع على كسب تأييد الشارع اللبناني من دون أن تدري أن ذلك من شأنه أن يترك مفاعيل سلبية على مستقبلها السياسي خصوصا، وأنه لا يمكن لأي توجه سياسي معاد لدمشق في لبنان من أن يحقق حظوظا في النجاح على المدى البعيد طالما ارتهنت العلاقة الثنائية لعوامل الجغرافية والتاريخ والثقافة والمصالح، والعكس هو الصحيح طالما لا يمكن لدمشق الاستمرار في لعب دور قومي واقليمي من دون علاقات طبيعية وايجابية مع لبنان.
ان توافق اللبنانيين لا يمكن أن يتم من دون الوقوف عند هذه الحقيقة، وعليه فان التوافق في ملفات مثل الرئيس اللبناني البديل للرئيس اميل لحود، الى مزارع شبعا وهويتها والسلاح الفلسطيني في لبنان وسلاح المقاومة، الى العلاقة مع دمشق، يعني مقدمة ضرورية على طريق تجاوز مخلفات المرحلة الماضية والتطلع الى لبنان جديد.

ان وقفة مع تلك الملفات التي تجلس الأطراف اللبنانية بمختلف توجهاتها لمناقشتها، تؤكد أنه لا يمكن بحثها والوصول الى نتائج ايجابية من دون الوقوف عند رأي ومصلحة سورية، ليس من منطلق الوصاية والهيمنة بكل تأكيد، لكن من منطلق المصلحة اللبنانية ومنطلقات الرؤية العقلانية والواقعية.

ان سورية وبعد «التجربة المرة» التي عاشتها في لبنان، لا بد أنها أدركت أنه لا يمكنها تحقيق مصالحها في لبنان من خلال آليات التعاطي القديمة، ان دمشق اليوم تدرك أن وجود تيارات سياسية لبنانية عقلانية وصاحية رؤى بعيدة ومدافعين عنها داخل لبنان من دون أن تتواجد فيه سيمثل أفضل الضمانات لها بعد خروجها من لبنان.

وبناء عليه لا يمكن لتلك التيارات أن تمضي بعيدا من دون الوقوف عند مصالح سورية بحيث تتوافق أو تأتي برئيس جديد يحمل مواقف عدائية ضد سورية، كذلك لا يمكن الاتفاق على حل ينهي اشكاليات مزارع شبعا من دون تفاهم مع سورية والاتفاق معها، كذلك حال مستقبل السلاح الفلسطيني وسلاح المقاومة, ان هذه الملفات تثبت أن على الجميع في لبنان الاقتراب أكثر من دمشق من أجل ايجاد مخارج عقلانية.