لا أعرف أين تقع فرنسا مني تماما. لي ثلاثة كتب انطباعية، معظمها عن فرنسا. ولي رواية عن استقلال لبنان، أقف فيها ضد فرنسا. وفي سنوات عملي أمضيت وقتا طويلا في تغطية أحداث فرنسا ومقابلة رجالها. وأحببت أشجار الجنوب الفرنسي وحجارة باريس، تحفة بعد أخرى. وبسبب ثورة ايار 1968 انتقلت من الصفحات الداخلية الى الصفحة الاولى. وعندما كنت لا أزال أملك وقتا للمقاهي كنت أبدده في مقاهي باريس. وكنت أعتقد في شبابي انه يكفي ان يعيش المرء في باريس حتى يصبح شاعرا وكاتبا. وكنت أكتب رسائلي الصحافية من باريس على ورق أزرق مربع مثل الدفاتر المدرسية.

لكن الفرنسيين كانوا يذهلونني باستمرار. أجلس في المقهى فأسمعهم يشتمون ديغول، مع ان الدنيا تحسدهم عليه. واذا ذهبوا الى الاقتراع يصوت خمسة ملايين منهم لشيوعي مستدير الرأس والجسم يدعى جاك ديكلو، مهملين بعض أعرق رجالات فرنسا. وعندما وقعت ثورة ايار رأيت الطلاب ورجال النقابات ينزلون الى الشوارع ويقلبون الارصفة ويحطمون الاشجار الجميلة ويحرقون السيارات من دون أن يعرفوا إذا كان مالكها شيطانا أو رجل خير.

في الستينات وضع الكاتبان لاري كولنز ودومينيك لابيار مؤلفا تحول الى فيلم شهير بعنوان: «هل تحترق باريس». ويروي كيف ان قائد الجيش الالماني المحتل خلال الحرب العالمية الثانية رفض أوامر هتلر بتدمير جمال باريس. وكان ذلك في ذروة العداء الالماني ـ الفرنسي. لكنني منذ أشهر وانا أرى الفرنسيين ينزلون الى الشوارع، لأي سبب تافه، ويشعلون النار في ثوب باريس الجميل. ويرتكبون ما رفض المحتل الالماني أن يفعله في عاصمتهم. ويسير مليون شخص في لندن لسبب شديد الاهمية هو معاداة الحرب. ولا يسقط غصن شجرة واحد. ولا تقتلع وردة. ولا يصرخ خطيب داعيا الى تدمير بلاده وإحراق عاصمته.

ولا أعرف ما هو هذا المرض الحاقد في النفس الفرنسية. وأتذكر كم كان ديغول يحب فرنسا ويشكك في مواطنية الفرنسيين. ولعل في شهوة الحرق والتدمير والنزول الهمجي الى الشوارع، شيئا من ثقافة الثورة الفرنسية. وغريب أن يحب غريب مثلي حجارة باريس وأشجار الجنوب ويحذر الفرنسيين. وأحياناً يخافهم. فلماذا يقولون بالحرائق ما يمكن قوله على مقعد البرلمان، أو على مقاعد الحديقة العامة في غابة بولونيا؟