"المسيحيون في لبنان عديمو النفع تماماً. يقاتلون بعضهم بعضاً، ومعظمهم انهزاميون لأنهم يكرهون كميل شمعون. اما الآخرون فهم تجار لا هدف لهم سوى ان يعيشوا حياة مترفة".

الامير فريد شهاب

المدير العام للامن العام

في تقرير الى الخارجية البريطانية (1958/2/26)

بعض رجال الدولة، بمن فيهم الكبار، يواجهون احياناً اوضاعاً لا يحسدون عليها. وغالباً ما تضطرهم الى مغادرة الحكم، في حين يتمسك آخرون بالكراسي بأي ثمن، وإن على حساب دماء الشعب وآلامه.

ويترجح القرار والموقف في هذا الشأن بين العقل والقلب.

ففي فرنسا التي تجتاحها منذ فترة اضرابات وتظاهرات للشباب المقبلين على سوق العمل، رافضين قانون الوظيفة الاولى بعد التخرج من الجامعة والذي يضع الموظف فترة سنتين قيد التجربة او الاختبار، دون تثبيت، بحيث يحق لصاحب العمل صرفه والاستغناء عن خدماته خلال هذه الفترة.

وفي حين يدافع رئيس الوزراء دومينيك دو فيلبان عن عقلانية هذا القانون، تهب في وجهه عواصف الاحتجاجات الطالبية والشبابية والنقابية، على اساس ان القلب لا يتحمل بقاء شاب مدة سنتين في حال قلق وعدم استقرار، معرضاً لقرار من صاحب العمل، ابسط مفاعيله القاؤه في الشارع عاطلاً عن العمل.

واذ يزداد الضغط على دوفيلبان العقلاني، يبدو كأنه يكاد يفقد وظيفته كرئيس حكومة ليعود شاعراً واديباً وديبلوماسياً عاطلاً عن العمل! ويشبه في ذهابه – اذا ذهب - الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول الذي اصر بعقله على نتيجة عالية في الاستفتاء... او يرحل. فرحل. ويتوقف أمر دوفيلبان على رئيسه جاك شيراك، وهل يسمح له بالذهاب او يضحي به وبعقله، ليلجم به جموح القلب والعاطفة لدى الشباب الهادر في شوارع باريس، والثائر في محيط الجامعات مصنع الانتفاضات.

من رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دو فيلبان، الى رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة الذي يحاول ان يقارب موضوع المقاومة بعقله، في الداخل كما في المحيط العربي، على اساس ان تحرير الارض المحتلة في الجنوب قد أُنجز بواسطة "المقاومة الاسلامية" التي لم تكن تقابل باعتراضات عندما كانت شلالات الدم تتدفق من صدور شهدائها.

وكان القلب يحضنها، من الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتياره الى البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الذي تجاوز "اسلاميتها" ومنحها بركته ورعايته على اساس انها تضم شباناً لبنانيين قرروا ان يفتدوا بلدهم بدمائهم من طريق تصديهم للعدو الاسرائيلي. وقد نجحوا في ذلك وحدهم، رغم تحفظات من بعض الاطراف العقلانيين مثل "جبهة المقاومة الوطنية" التي منعت من المشاركة في اداء واجب الشهادة وتعرض مقاتلون منها للاستشهاد على ايدي "المقاومة الاسلامية"، كما صرح بعض قادتهم في الحزبين الشيوعي والسوري القومي.

ولا يزال اللبنانيون، بغالبيتهم الساحقة، يحضنون المقاومة وابطالها بقلوبهم وعواطفهم، قبل عقولهم. بل هم يضعون عقولهم جانباً عندما يُطرح امامهم موضوع المقاومة وما انجزته، رغم ان السلطات على مختلف درجاتها قد اكتفت باستثمار انجازات المقاومة دون الالتفات الى الاثمان التي ترتبت على ذلك، من ايتام وارامل وعائلات فقدت معيليها، ملقية بعبء الشهادة وما يليه على عاتق الذين "دفعوا" الشباب الى بذل النفس في سبيل الوطن، كأن الوطن وتحريره والمحافظة على كرامته من مسؤولية الذين دفعوا ارواحهم ثمن دحر العدو المتغطرس – دون سواهم – وان عليهم وحدهم، وإن اصبحوا تحت التراب او في جنات الخلد، ان يتحملوا تبعات ما فعلوه بأنفسهم وللوطن.

وكان مفترضاً، قبل التصدي لموضوع المقاومة بقصد جعلها "وطنية" ومن مسؤولية الشعب اللبناني بكل طوائفه وفئاته، وعلى اساس انها حق لكل مواطن، سواء اكان شيعياً ام مارونياً ام سنياً ام درزياً - كان مفترضاً اطلاق ثقافة تنشر روحية التضامن الوطني مع المقاومة بالاحتضان القلبي، والبذل المادي.

فقبل اداء الواجب امام المقاومة، عائلات شهداء وايتاماً وارامل ومعوقين من خلال مؤسسات يمولها الشعب اللبناني بكل طوائفه وفئاته، لا يحق لاحد ان يطرح موضوع المقاومة الآن، بعدما حررت الارض وحفظت الكرامة اللبنانية والعربية. وقد بدا ذلك واضحاً في قمة الخرطوم حين اظهر العرب، دون استثناء، اعترافهم بجميل المقاومة عليهم، واعتبارهم اياها شأناً قومياً يعني العرب والمسلمين جميعاً، اكثر مما هو شأن وطني لبناني يخص فئة شيعية اسلامية دون سواها.

وعبّر عن ذلك بصراحة ووضوح امس الرئيس نبيه بري في جلسة الاسئلة والاستجوابات، خلال رده على موقف الرئيس فؤاد السنيورة في مؤتمر الخرطوم والضجة التي اثارها الخلاف بينه وبين الرئيس اميل لحود حول توصيف المقاومة في القرار الخاص بلبنان. وكان بري ديبلوماسياً رائعاً عندما وصف ما "اقترفه" السنيورة في حق المقاومة بأنه "خطيئة".

وعندما يكون النزاع بين العقل والقلب، فلا بد ان يترك آثاراً سلبية تؤثّر على مسارات كثيرة من شأنها اضعاف صاحب الشأن وتقليص دوره. وهذا ما سيحصل، سواء بقي دو فيلبان في موقعه الحكومي، او استمر السنيورة في رئاسة حكومة كل الدلائل تشير الى اهتزازها واضعافها والانتقاص من صدقيتها، وخصوصاً بعدما اتهم السنيورة وزير خارجيته فوزي صلوخ بأنه "خدعه" في موضوع الفقرة التي حصل خلاف عليها بينه وبين الرئيس لحود الذي كان صلوخ في عداد وفده. يضاف الى ذلك الانتقاد القاسي الذي وجهه الرئيس نبيه بري الى الرئيس فؤاد السنيورة بمخالفته قرار مؤتمر الحوار أن يكون هو والرئيس اميل لحود في وفد لبناني واحد. ولولا ذلك، في نظر بري، لما حصل "الاشتباك" العلني بين السنيورة ولحود وادى الى اضعاف النظرة العربية الى لبنان الذي بدا منقسماً بطريقة غير مقبولة من اي رئيس او ملك او سلطان او امير عربي حضروا المؤتمر واظهروا التفاتهم، ويا للاسف، حول رئيس جمهورية فقد الشرعية في بلده، ولكنه حظي بـ"عطف" نظرائه بعد استظلاله المقاومة التي يقدسها هؤلاء الزعماء بقلوبهم، ولا يهمهم ماذا يقول عقل رئيس الحكومة اللبنانية في شأنها.

... ولكن رب ضارة نفعت.

اذ في الوقت الذي اعتذر فيه رئيس كتلة "المستقبل" النائب سعد الحريري في حديثه الى قناة "الجزيرة" الفضائية اول من امس عن رفض المبادرة العربية التي قال انه كان يجب قبولها، كان مؤتمر الخرطوم مناسبة لدعم العرب مؤتمر الحوار. وربما المساعدة – من سوريا الى مصر والسعودية وغيرها – في ايجاد مخرج لموضوع سلاح المقاومة ولخلع الرئيس اميل لحود الممددة ولايته بالضغط والاكراه السوريين، والاتيان برئيس جديد، وانتاج قانون انتخاب يحقق التوازن الوطني عبر انتخابات حرة ونزيهة تساوي بين اللبنانيين وتدعم عيشهم المشترك.

واذا كان لا بد من فتح قنوات حوار مع سوريا المرتاحة نسبياً بعد فصل التحقيق الدولي عن العلاقات معها، فالاجدى الا نزحف على بطوننا للقاء السوريين، سواء اكانوا من الرؤساء كالدكتور بشار الاسد، أم الوزراء البارزين كالسفير وليد المعلم. ولا نتعلق بحبال الهواء كمثل اعتبار مصافحة عابرة لقاء على موعد، ومحطة تواعد واتفاق على جدول اعمال.

بل ربما كان الاجدى ان تسعى سوريا الى طلب ود لبنان، والتحاور معه في ما يعنيها هي لديه ويعنيه هو لديها. وهذا لا يتحقق الا اذا اظهر اللبنانيون انهم موحّدون ومتضامنون، صفاً واحداً يصعب اختراقه. واذ ذاك تحترمهم سوريا وتحسب لهم الف حساب، وتكف عن تهديدهم وتوعّدهم بعظائم الامور.

فهل تعي قوى 14 آذار، ونحن جزء منها، معنى تحصين الساحة، ورص الصفوف، وتعزيز الوحدة الوطنية تمهيداً لاخراج المحتل غير الشرعي لقصر بعبدا، بإرادة جامعة تقرّب العقل من القلب؟