يدعو مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الخرطوم إلى التساؤل عما إذا كان من الضروري عقد مثل هذا المؤتمر، إذ لم يكن هناك حاجة إلى عقد مؤتمر قمة عربي للخروج ببيان، دعي <<بيان الخرطوم>>، لا تلبي مقرراته الحدّ الأدنى من المطالب والاستحقاقات العربية.

كما لم تكن هنالك ضرورة لقمة تقرر اختصارها إلى يوم واحد، ثم مددتها الخلافات يوماً آخر، واختزل جدول أعمالها الى الحدود الدنيا التي بالكاد تلامس القضايا العربية الكبرى، وتجنبت فتح أي نقاش جدي حول أي منها، بدءاً من القضية الفلسطينية حيث جرى تغييب ذكر حركة <<حماس>> التي عهد اليها الشعب الفلسطيني قيادة مشروعه الوطني، وصولاً إلى تأكيد <<احترام سيادة العراق، وضرورة سرعة تشكيل حكومة عراقية، وإدانة استهداف الأماكن المقدسة فيه>>، في حين جرى السكوت عن إنهاء الاحتلال، وعن التدخل الإيراني، وعن الحرب الأهلية المذهبية الأشد دموية في تاريخ العراق، وانتهاء بالسكوت عن أزمة العلاقات السورية اللبنانية، مقابل اعتماد صيغة تدعم لبنان في <<سعيه لاستعادة مزارع شبعا>> واعتبار <<المقاومة اللبنانية هي تعبير صادق وطبيعي عن حق الشعب اللبناني في تحرير أرضه والدفاع عن كرامته في مواجهة الاعتداءات والأطماع الإسرائيلية>>. وأخيراً اكتفت القمة بتخصيص مبلغ 155 مليون دولار للمساهمة في تمويل القوات الأفريقية العاملة في دارفور خلال الأشهر الستة القادمة.

يبدو أن المبرر الوحيد لانعقاد قمة الخرطوم، هو الحفاظ على مبدأ دورية انعقاد القمة العربية في موعدها الربيعي، حيث عقدت وسط ضبابية غير مسبوقة، ووسط استقطابات وتجاذبات فضلاً عن الألغام والمطبات التي سادت بصورة لافتة على أجوائها. وتغيب عنها العديد من كبار الرؤساء والملوك العرب بالرغم من تأكيد الرئيس السوداني عمر حسن البشير، الذي ترأس القمة، بالقول إن <<هذه القمة تنعقد في ظروف دولية وإقليمية ومحلية معقدة، وتتطلب منا مواقف جادة تعبر عن تطلعات الشارع العربي>>. لكن هل كان الشارع العربي يتطلع إلى قمة تكتفي برفض خطة زعيم حزب <<كاديما>> ورئيس الوزراء الإسرائيلي بالوكالة إيهود أولمرت الهادفة إلى رسم حدود الدولة العبرية من جانب واحد، أم كان ينتظر قمة تعيد تأكيد مبادرة السلام العربية التي لم تلق أي اهتمام دولي أو إقليمي؟ والأهم من ذلك كله، ما الداعي لعقد قمة عربية بجدول أعمال مفتوح ومرتبك، الأولويات فيه غير حاسمة، والحساسيات والضغوطات تتحكم إلى درجة تقرر فيه أي البنود يبقى وأيّها منها خارج جدول الأعمال؟

لقد ساد اعتقاد بأن القمة العربية قد تمأسست، عبر تحويلها إلى حدث تشهده العواصم العربية بشكل دوري سنوي، وأن العمل العربي المشترك، ولو على المستوى التشاوري، قد حقق قفزة نوعية إلى الأمام، بعكس القمم السابقة، غير الدورية، التي كانت تعقد حسب مقتضيات الظروف والحاجات. وكانت جداول أعمالها ومقرراتها مرتبطة بالظرفي والراهن إلى جانب عموميات أخرى. وكان الأمل معقودا على الارتقاء بمستوى العمل العربي المشترك، لكن الخيبة كانت تسبق التوقعات في كل مرّة تنقد فيها القمة، وتتأكد مع مقررات كل قمة، حيث تبقى مجرد حبر على ورق، وحيث لم يلمس الإنسان العربي فاعلية أيّ منها، فمحصول القمة شحيح ولا يطاول حياة الإنسان العربي، فيما تزداد حالات التردي والانهيار، وتزداد الضغوطات الخارجية، وليس هنالك أي مسعى في التغيير نحو الأفضل.

وقد برزت في السنوات القليلة الماضية تساؤلات عديدة حول جدوى القمم العربية ومستقبل النظام العربي، وامتدت التساؤلات لتطال نشأة الجامعة العربية، وما فعلته طوال مسيرة أكثر من ستين عاماً من عمرها، وما حققته من مكاسب للنظام العربي على مختلف الصعد، السياسية والاقتصادية والعسكرية، وسواها.

فإذا كانت المؤسسات تنشأ عادة في سياق تاريخي معين، حيث تلعب القوى الأساسية وتداخلاتها الدور الأكبر في تحديد طبيعتها وأهدافها ومسارها، فإن الجامعة العربية نشأت في ظرف تاريخي عكس حرص بريطانيا للذود عن مصالحها الخاصة، والوقوف في وجه الاندفاع نحو الوحدة العربية. ومع ذلك قامت الجامعة على أسس مشتركة وعلى خلفية محن كبيرة، أهمها الاستعمار ونكبة فلسطين، وتكونت حول كيان لغوي ثقافي حضاري جغرافي لا مثيل له في العالم.

وحملت نشأة الجامعة (1945) أسباب ومقومات عجزها واختلافها. فهي قامت، من جهة أولى، على احترام وحماية سيادة الدولة القطرية، ومن جهة ثانية وضعت من بين أهم أهدافها تقوية العلاقات العربية والتعاون العربي حسب ما ورد في المادة الثانية من ميثاقها التأسيسي. لكنها مع ذلك شكلت، على المستوى الحقوقي، مفصلاً في عملية الانتقال من البنى الحقوقية القطرية إلى نظيرتها ما فوق القطرية أو القومية. وقد واجهت الجامعة العربية معضلات ومآزق عديدة، وكانت حياتها، من لحظة التأسيس إلى اليوم، ميداناً للخيبات والمساومات والتجارب المحدودة، وتحولت في أكثر من مناسبة إلى مجرد هيئة بيروقراطية تدور حول نفسها، وتعيد إنتاج حالات التردي والانهيار والهزائم العربية.

ولم تتمكن القمم العربية طوال تاريخها من النهوض بفعل ما، يؤكد فعاليتها، أو يقنع إنسان الشارع العربي بذلك، بل وبالرغم من القمم العديدة، الدورية منها والاستثنائية، فإن الاستخفاف بقدرتها على تأكيد موقف عربي مشترك، والتمسك به وتنفيذه، ازداد بين أوساط شعبية واسعة، وحتى في الفترات التي بدت فيها الجامعة في أحسن أحوالها وهي نادرة فإنها كانت تخفي علل ومواطن خلل كثيرة.

اليوم، وبعد احتلال العراق ودخوله حرباً أهلية، تجد القمة العربية نفسها في أشد حالات عجزها وعدم فعاليتها، ومرد عجزها يعود إلى عجز الإرادة السياسية للأنظمة العربية وعدم الانسجام بين تطلعاتها، وهيمنة الاستتباع لهذه الجهة أو تلك، وبخاصة للولايات المتحدة الأميركية، لذا فإن المرجو من أية قمة عربية مقبلة هو أن لا تضيف مجرد رقم إلى جملة القمم العربية العديدة السابقة، وأن لا تكرس واقع الخلافات والتجزئة وضيق الرؤية في المواقف والالتزامات. ذلك أن فقدان الثقة والاحتراس من الشقيق قبل العدو قد أفضى إلى صراعات وعداوات عقيمة مزقت مؤسسات العمل العربي المشترك، وأبقت قراراتها وتوصياتها حبراً على ورق. لكن مشكلة الأنظمة العربية تبقى في أن معظمها لم تتجه نحو اتخاذ قرار المصالحة الوطنية الداخلية مع شعوبها، وبشكل يمكن القوى الحية في المجتمع من المشاركة السياسية، لأن همّ الأنظمة الحاكمة، كان ولا يزال، منصباً على الدوام نحو المحافظة على مكتسبات السلطة وتأبيد حاضرها، لذلك فمن المستبعد أن توفر أية قمة عربية إمكانيات التقدم نحو العمل المشترك، أو نحو إصلاح الداخل، أو حتى نحو تحقيق المصالحة مع العالم.