بسام القاضي جريدة النور (العدد 239)

رغم أن الحزن محض شخصي. شعور ينبثق من بؤرة خفية في العمق الفردي للمرء. إلا أنه تمكن أخيراً، في مهد الحضارات بلدي، من أن يصير عمومياً!

فالسادة الحكماء في كل (مفصل) مهترئ في هذا البلد متورم بالروماتيزم والعطالة، تمكنوا أخيراً من تطبيق مفهومهم المسخ للوحدة الوطنية بأن وضعونا جميعاً، إلا بعض المبطانين، تحت مكواة واحدة مسحت فينا كل شخصية وكل تميز فردي، حتى صرنا لا نختلف في شيء عن جيش من البكتريا تسبح في علبة اختبار!

تلك (الوحدة الوطنية) تعني: ممنوع المظاهرات إلا بتنظيمٍ وإشرافٍ من (أولي الأمر)! فهم الوحيدون الغيورون على مصلحة الوطن. وغيرهم ليسوا إلا مجرد خونة! وفي أحسن الأحوال ليسوا إلا بهائم تحتاج إلى من يقودها وينظم حركتها، بالسوط طبعاً!

و(الوحدة الوطنية) تعني: ممنوع الإضرابات لأن هناك من هو (أدرى) بمصالح العمال والمزارعين وصغار التجار في منظمات واتحادات وأحزاب استهلكت كل علب اللاصق السريع وهي تلصق مؤخرات رجال تحولوا من (ممثلين) للطبقات الكادحة إلى (ممثلين) في مسرح للكوميديا السوداء!
و(الوحدة الوطنية) تعني: نعم لقانون أحزاب تُفصِّله (أحزاب) لا تمتلك حتى الآن أية شرعية قانونية! وتريد أن (تدحش) الناس في عباءة مفصلة على مقاساتها حتى لا تقع في (خطر) تلاشي آخر امتيازاتها الوهمية!

و(الوحدة الوطنية) تعني: لا للاحتجاج على قانون طوارئ ولد قبل أن أولد! ومازال هو سيدي الذي عليَّ أن ألعق أقدامه كل صباح حتى لا أعود مرات ومرات إلى زنزانات لا يجرؤ حماتها على فتحها للتفتيش! فهي لا تصلح حتى للحيوانات!

و(الوحدة الوطنية) تعني: نعم لتسليح الزعران والشبيحة بعصي وهراوات وشعارات مقيتة كي يواجهوا أياً من العملاء الذين يفكرون أن من حقهم أن يفكروا في هذا البلد!
و(الوحدة الوطنية) تعني: عودة مباركة وميمونة لزوار الفجر يزرعون البيوت والشوارع في كل المحافظات بعد أن ظننا ظنَنَا الآثم أن هذا زمن قد راح!

و(الوحدة الوطنية) تعني: علي أن أدفع ضريبة إضافية لأنني أتنقل في شركة خاصة أو عامة! وضريبة لأنني أتجرأ على أن آكل في مطعم! وضريبة لأنني فكرت أن أمتع نفسي بعلبة مياه غازية! وضريبة لأنني أحتاج ورقة من أية جهة رسمية أو غير رسمية!
و(الوحدة الوطنية) تعني: أن يحق لصوت الظلام والموت أن يعلو في المنابر ويحرم صوت العقل والانتفاح بفرمانات من سلطات لا تجد حرجاً أن تنحاز انحيازاً أعمى لصالح محاكم تفتيش القرن الحادي والعشرين!
و(الوحدة الوطنية) تعني: كل ما في هذا البلد له سعر، وأرخص ما فيه هو الإنسان!

و(الوحدة الوطنية) تعني... ماذا تعني الوحدة الوطنية؟!
لا شيء. ببساطة لا تعني شيئاً. واتهموني قدر ما تشاؤون بالعمالة والخيانة. الوحدة الوطنية لا تعني شيئاً بذاته. ولا يمكنها أن تعني شيئاً بذاته. وإلا.. لكانت قطعان النازيين هي نموذج أعلى للوحدة الوطنية! ولكانت قطعان الطائفيين القتلة في مجازر الهوتو والتوتسي، ومجازر الصرب للبوسنيين نموذجاً أعلى! وكذلك قطعان الغزاة الصهاينة والغزاة الأمريكيين والغزاة الزرقاويين والغزاة الظلاميين من كل اسم ولون..
ولكنها ليست كذلك.. مهما صُرف على ترويج هذا المفهوم في الإعلام والمؤتمرات..

ببساطة مرة أخرى.. الوحدة الوطنية هي فقط، وفقط وحدة طوعية بين أناس أحرار مكرمين يختارون بملء إرادتهم أن يجمعهم وطن..
فلا تتعبوا أنفسكم أيها المنظرون. لم يعد العالم حظيرة مغلقة لكم. هذا عالم مفتوح لن يمكنكم أبداً أن تعيدوا إغلاقه..