إن انتقدت الشرق في الشرق, والغرب في الغرب, ستخسر الاثنين... لكن تربح ذاتك وضميرك الداخلي. إنها معضلة المثقف العربي المقيم في الغرب, والذي تجتاحه افتراقات الطرق عند كل منعطف: إما أن يختار أسهلها وأكثرها أمناً وأماناً, لكن مع جبن ضميري ومساومة شعبوية, وإما أن يخلِص لمهمة المثقف التي تصدى لها يوم قرر أن يسطر الحرف ويكون صادقاً معه. ما أصعب أن تكون مثقفاً ليس لك ولاء لحزب, أو لحكومة, أو لأيديولوجيا. لا تحكم على القضايا والآراء والأحداث بحسب منظور مسبق وأجندة مسطَّرة يحددان لك ما يجب أن تقوله وما لا تقوله, أياً ما يكن الظرف, أو تفاصيل المسألة. فحينها سيقل عدد من يفهمك, إذ يحمل أغلبهم مساطر حزبية, أو حكومية, أو أيديولوجية لقياس ما تكتب. لا يريد كثيرون أن يفهموا أن كل قضية ممكن أن تُناقش بحسب ظروفها الموضوعية, وعناصرها, ومسببات حدوثها, والفاعلين المهمين فيها. وأنه كما الحال مع كثير من القضايا المرتبطة ببعضها بعضاً, فإن قضايا كثيرة أخرى منفصلة عن بعضها يعضاً ومن العسف وصلها معاً قسراً والتواءً.

في المجتمعات النامية التي تغلب فيها نسب الأمية (الكتابية والثقافية) كما هو المجتمع العربي حيث هناك أمي واحد من بين كل ثلاثة أفراد, يغامر المثقف الذي ينحاز للموضوعية والعقلانية, ويبتعد عن التحريضية والشعبوية, بأن يكون محطاً لكل الاتهامات. فهنا يتفوق المثقف التعبوي, الشعبوي, الأيديولوجي والتهريجي طبعاً. يتمكن هذا المثقف ببساطة بالغة من انتزاع التصفيق عندما يظل يدغدغ مشاعر الجمهور, ويحدثهم بما يحبون سماعه, ولا يتعرض لنقد ما يعشش بين ظهرانيهم من مساوئ واختلالات. والمعادلة المطلوب الالتزام بها, بطريقة فجة وسخيفة, هي أن يتوجه المثقف لنقد الآخرين, لنقد الأعداء, لنقد الغرب, لنقد إسرائيل, فحسب, وألا ينتقل لنقد الذات ومحاسبة هذه المجتمعات وقياداتها أين أخطأت, وأين ما زالت تخطئ.

في الثقافة العربية العريقة تُعرف الحكمة بأنها قول الشيء الملائم في المكان الملائم في الزمان الملائم. وهو الأمر الذي بالكاد يتواجد هذه الأيام في الخطابات المنسوبة للثقافة والفكر عند جمهرة كبيرة من المثقفين, وخاصة المثقفين العرب في الغرب الذين يواجهون أسئلة صعبة حول دورهم وخطابهم. تطبيقاً لمنطق الحكمة ذاك, ليس ثمة معنى كبير, أو إنجاز فكري, أو حتى شجاعة أدبية, في مواصلة بعض المثقفين العرب نقد أنفسهم ومجتمعاتهم وتشريحها في المنابر الغربية. ولا يعني هذا طمر الرؤوس في الرمال, أو الادعاء بأن مجتمعاتنا لا عيوب فيها. لكن القصد هو أن التمكن من الوصول إلى منبر إعلامي أو فكري غربي يفرض على المثقف العربي انتهاز الفرصة لإيصال ألف رسالة أهم من تكريس تلك السانحة لتشريح الذات, خاصة أنه لا يترتب على ذلك شيء عند الجمهور المستمع. فالمستمع الغربي لن يقوم بأي فعل إيجابي عندما يستمع لمثقف عربي ينتقد مجتمعه العربي بقسوة. لكن ذلك المستمع يمكن أن يتحرك ويتأثر ويبحث عما يمكن عمله إن سمع نقداً للغرب ولسياسات الغرب من على منابره الإعلامية, وخاصة إن كان نقداً أو تحليلاً لا يسمعه عادة ولا يصل إليه. فهذا المستمع, الأوروبي أو الأميركي, تضلله شعارات السياسيين الذين يخوضون حروبا باسمه في مناطق العالم بحثاً عن مصالح نفطية أو اقتصادية, أو بالوكالة عن مصالح دول أخرى, وثمة مهمة شبه مقدسة لتوصيل الحقيقة إليه.

في المقابل ليس ثمة معنى كبير, أو إنجاز فكري, أو حتى شجاعة أدبية, في مواصلة بعض المثقفين العرب نقد الغرب ومجتمعاته وتشريحها على منابر عربية. ولا يعني هذا لا دفاعاً عن الغرب ولا تغطية لمساوئه, بل يعني أننا أمام مهمة أكثر إلحاحاً وهي نقد وتطوير مجتمعاتنا العربية ومعالجة اختلالاتها. بإمكان أي مثقف عربي أن يداوم على "نقد الغرب" و"نقد إسرائيل" صباح مساء, متكئا على تصفيق مستمر إثر كل مقال أو خطبة تلفزيونية. لكن ذلك لا ينشر ثقافة بناءة, بل سلبية راكدة تركن إلى أنها الأفضل والأنجح تحرقها نار الغرور والنرجسية بما لا يدع لديها فرصة للاعتراف بأخطائها في غمرة ترحيل تلك الأخطاء على الآخرين.

من المفهوم, بل والمطلوب, أن تظل النظرة النقدية هي الرائدة في تقييم أية مسألة سواء تعلقت بالغرب أو بالعرب. ومن المفهوم ومن الملح أيضاً أن تظل النظرة التحليلية مرافقة لنا في الثقافة والإعلام, خاصة إزاء المواقف المستجدة غربياً, أم أميركياً, أم إسرائيلياً. فمن دون النقد والتحليل المستمر لا يتم جلاء المواقف والتباسات الحوادث. بيد أن الأمر في الثقافة والإعلام العربي يتخطى ذلك بمراحل, وتطفح المعالجات بكل ما هو سقيم من تهريج وتحريض لا يبقي من رصانة التحليل إلا أقله. ففي خضم البطولة الدونكيشوتية في "إفحام الغرب" وتفكيكه وتشريحه ينزلق مثقفون كثر إلى مهاوي الشعبوية وعينهم على التصفيق أكثر مما هي على التحليل الموضوعي.

من على المنابر الغربية الحكمة تقتضي أن ننقد الغرب وسياساته ومن على المنابر العربية تقتضي الحكمة أن ننقد أنفسنا وسياساتنا, ونبحث عن كيفية الخروج من المآزق التي تحيط بنا من كل جانب. لكن المعضلة الكبرى هنا هي أن كل مثقف يتبع هذه السياسة تلحقه الاتهامات. فالجمهور العربي, وخاصة جحافل أنصاف المثقفين, لا يتابعون هذا المثقف إلا عندما يرونه أو يسمعونه أو يقرؤونه في المنابر العربية, أي عندما يكون أكثر نقداً لذاته ومجتمعه, ولا يرونه عندما ينتقد الغرب على المنابر الغربية, فيبدو في نظرهم متغربناً وقد تأثر بالغرب, ويبدو في نظر بعضهم الآخر كمن باع نفسه أو يتآمر على مجتمعه وسوى ذلك من التخريفات التي تغذيها بالطبع أيديولوجيا الثقافة الستالينية.

والمعضلة المزدوجة يكتمل جانبها الآخر عندما يُصنف هذا المثقف في الدوائر الغربية باعتباره منافحاً عن العرب والمجتمعات العربية, بل يُرى بعض الأحيان على أنه متعصب لشرقيته وغير موضوعي. عندها يصبح كمن يقف على الحدود, لا الشرق يقر بإخلاصه, ولا الغرب يقر بموضوعيته. لكنه مع ذلك كله يكسب ما هو أهم من اعتراف الطرفين: يكسب حريته في أن يقول ما يقول, ويمارس الحكمة العريقة كما يراها من دون حسابات لتصفيق, أو ركض وراء تعبئة وتحريض.