ليس هناك حالة مجازية ما بين "الشريحة الوسطى" و "الويل"، لأننا عندما نراقب الصورة الكاملة لما يحدث أو يمكن أن يحدث نكتشف أن المسافة التي تفصلنا عن الأزمات هي في داخلنا، أو حتى في الصورة الاجتماعية التي نركبها بشكل سريع لتظهر وكأننا دخلنا عصر "الاقتصاديات الحديثة" فنتكلم عن مساحات "الطبقات" بينما نمارس الإجراء الاقتصادي على سياق عصور الوسطى، أو وفق ما يمليه "الاقتصاد" الريعي من تعليمات وحلول حتى ولو استخدمنا الحاسبات الإلكترونية.

ما يفصلنا حقيقة عن "الشريحة الوسطى" هو الإحساس بأننا نملك وعيا لما يمكن أن تقوم به هذه الفئة عندما تصبح شكلا منتجا أو مستهلكا في عصر "الفائض المعلوماتي". فالقضية الأساسية كما تبدو ليست في تعرفها أو معرفة مكانتها داخل المجتمع، ولا حتى في رسم الإجراء الاقتصادي الأنس لإنعاشها، بل في حقيقة ظهورها من رحم "الدولة" أساسا بعد الاستقلال، فإذا كانت هذه الطبقة من نتائج الثورة الصناعية، فإنها كما ظهرت في شرقي المتوسط عموما كانت وليدة "الدولة" وأجهزتها التي أتت مع نهاية الحكم العثماني، وتكرست مع دولة الانتداب، ثم أنعشت الآمال في الاستقلال، مما دفع شرائح المتعلمين للانخراط بها.

ولا شك أن تدخل الدولة للتأثير على "الطبقة الوسطى" ليس بدعة، فمن دولة الرفاه إلى حركة الحقوق المدنية في الستينات داخل الولايات المتحدة، كانت الدولة عاملا أساسيا في تحولات هذه الطبقة. وحتى خلال المراحل المبكرة للثورة الصناعية، وظهور هذه الطبقة فإن الدولة بما تحويه من نخب استطاعت بالفعل احتضان هذه الشريحة التي تميزت بقدرتها على التحرك ودعم السوق وتقديم الأفكار والحلول. لكن الافتراق الحقيقي داخل منطقتنا كان في التجاوز التاريخي، والثقافي إن صح التعبير، لإنجاز هذه "الطبقة" بشكل سريع، فكانت سريعة العطب تحت وطأة "المجتمع الأبوي" الذي استطاع تكسير مفاهيمها بسرعة قياسية.

ربما ليس مهما أن نبحث أين اختفت هذه الحالات الجنينية لهذه "الطبقة"، فالشأن الأساسي هو إدراك أن المراحل الاجتماعية التي نعيشها مرتبطة بشكل وثيق بأي تفكير عام، أو سياسي، نريد التعامل معه اليوم. فالديمقراطيات وحقوق الإنسان و "المجتمع المدني" لم يظهروا من الفراغ، لأن مفردات الحياة الحديثة تفرض نفسها بسرعة، وتتطلب البحث عن النتائج المترتبة عن الحداثة، سواء بانتقال "الثقافة الأبوية" باتجاه "الطبقة الوسطى" أو مؤسسات الدولة، أو غيرها من الأشكال التي لم نعرفها إلا كنتائج للدخول في زمن جديد ... لا علاقة له بالتراث.

بهذه الصورة فإن "الويل" سيبقى مرتبطا بصورتنا لأنفسنا، فإما حالة طارئة دخل إلى أزمنة الحداثة بالصدفة، أو محاولة جدية للعبور نحو المعاصرة بكل ما تملكه من احتمالات مفتوحة. ووفق تحديدنا يمكننا أن نرى أن "الشريحة الوسطى" رحلت لأننا فضلنا الانتظار على العبور باتجاه المستقبل، أو حتى باتجاه رسم مفردات المجتمع الحديث