«النكوص» (regression) تعبير مُستقى من قاموس علم النفس، مفاده اتخاذ مواقف الأطفال حيال أوضاع إشكاليّة، بدل التصرّف بنضج يستدعيه عمر من يتصرّف. فهو نوع من تراجع الى زمن أشد طمأنةً لم يعرف الأوضاع المذكورة ولا تعرّض لها، أو أن أباً قوياً كان، في حال نشأتها، يتعامل معها ويعالجها، فلا يتكلّف الصغار أمر المواجهة ومسؤوليّتها.

والحياة الحزبية، في العالم العربي، تُبدي اليوم ضروباً باهرة من النكوص، تشبه ما واجهته الحياة الثقافية حين ارتدّ بعض رموزها (محمد حسين هيكل وجزئياً طه حسين...) من أفكار الديموقراطية والعصرية الى الوعي الغيبي وأشباهه.

والقاسم المشترك بين الحزبيين والمثقفين الحديثين أولئك صدور الطرفين عن أشكال في الوعي والتنظيم والسلوك غربيّة المنشأ. وأمام التطلّب «الولاّدي» لـ «الحلّ» و «الانتصار» بقوة الأشكال المذكورة، تأتي الأوضاع المعقّدة والصعبة لتعزّز «العودة» الى عهد الهناءة الأولى، أو ما يتخيّله «العائدون» كذلك. أما الطور الذي «نعود» إليه، وننكص، فذاك السابق على التداول السياسي أو الثقافي بالمعنى المتمدّن للكلمة. وإذ يحلّ العنف، أو إيماءاته وإشاراته، محل السياسة ولغتها وتوابعها، تحلّ الولاءات الدينيّة والقبليّة، وهي وحدها ما نحتفظ به في خزانتنا العتيقة، محل ولاءات ايديولوجية أحدث عهداً نصنعها بمحض خيارنا الذاتي.

فبعدما سبق أن رأينا كثيرين من الاشتراكيين والقوميين والديموقراطيين ينكصون الى إسلام سياسي لا تعوزه الراديكالية، نرى الآن أنماطاً أخرى من النكوص الحزبي في العالم العربي نكتفي، هنا، بعيّنات ثلاث عنها:

* فحين يقول «سيّد المقاومة» حسن نصر الله «إن من يريد أن ينزع سلاح المقاومة بالقوة (...) سنقطع يده ونقطع رأسه وننزع روحه»، لا يكون يفعل غير «العودة» الى عصر حجري مفتوح هو سلاحه الوحيد في مواجهة الوضع الشائك الحاليّ. وبما أن «الأب» الذي كان يتدبّر الأمور قد انسحب من لبنان، سقطت بانسحابه آخر أوراق الزعم الحزبيّ والسياسيّ التي كانت تُقدّم دليلاً على «لبننة حزب الله» وانتظامه في المؤسسات.

* وإذ يقدم نعمان جمعة، ابن الـ82 عاماً والحزبي «الليبرالي»(!) منذ نعومة أظافره، على ما أقدم عليه، يكون يعلن «العودة» الى خيار يُفترض أنه طوي منذ تأسيس «حزب الوفد» في 1919.

لقد وفّر الأب المضادّ، جمال عبدالناصر، هويّة ضديّة للوفديين، تماسكوا خلالها بوصفهم مناضلين منشقّين وسريين. أما وقد خلت مصر من الآباء، ومن الآباء المضادّين، فكأنها شرعت تخلو من الأحزاب تالياً.

* وفي العراق، ثمة أحزاب تحظى بحرية العمل الحزبي والسياسي، بل هي تحرز اليد العليا في التشكيل السلطوي القائم. بيد أنها هي إيّاها لا تتكتّم على هوى إيراني يستحيل أن يستهوي حزبياً. فكأنما لا يجد «الحزب»، هنا أيضاً، ما يبرّر حزبيّته سوى الأبوّة، أو الأبوّة المضادّة كما تجسّدت في صدّام حسين ونظامه.

وهي عيّنات تقول، بدورها، إن الأحزاب والحياة الحزبيّة لدينا لا تزال أقرب الى الأسماء التي لا تسمّي أحداً، فيما واقع حالها يعادل بعض سلوك الأطفال الناكصين، من عضّ القلم وإبقائه طويلاً طيّ الشفتين الى ترطيب الفراش ليلاً والنوم فيه. لكن الأطفال، هؤلاء وأولئك على السواء، قد يبدر عنهم ما هو أشد أذيّةً وإيلاماً.